وما دمنا في حديث تعارضُ هذه التيارات الفكرية، فقد كنت أحبُّ أن ينزّهَ الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض. . . وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة ١٩٤٠ منه. فهل يَظُنّ الأستاذ أننا نعيش في غيره أو أننا نرى أنفسنا رِمَماً تاريخية عتيقةً قد انبعثتْ في أجلادِ إنسان (القرن العشرين)!
. . . الزمن لا يكون هو العلة في إنشاء الحضارة، وإنما تُستجدُّ الحضارة بالروح الإنسانية وبالإنسانية الروحية، وإنما الزمن وحدوده تبع للإنسان الحي، ولا يكون الإنسان تبعاً للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية، وتفقد الإنسانية روحانيتها السامية. . . وترتد الحكمة والحضارة والتهذيب وجميع الفضائل إلى منزلة الغرائز الدنيا التي تصرَّف العجماوات من الأحياء في سبيلها، وعلى سنتّها، وبقانونها، ومن مدارجها النازلة إلى أغوار الحيوانية الفطرية
إن من أخطر التيارات الفكرية التي تهاوى فيها أكثر كتاب القرن الماضي، والمخضرمون من كتاب القرن العشرين اعترافهم بالقرن العشرين وما فيه اعترافاً (تعبُّدياً) يكاد يكون إيماناً وعقيدة، فما أقنع منه بالبرهان والحجة فهو ببرهانه وحجته، وما لم يقنع فهو مردود إلى الأسرار الأزلية للحضارة، وأنه هكذا كان. . . وأنه هكذا خلق، وأنه ما دام موجوداً في حضارة القرن العشرين، فوجوده هذا هو برهانه وحجته. . .!!
وأنا - مع الأسف - لا أعتقد في هذا القرن العشرين اعتقاداً قلبياً مطمئناً بالإيمان، لا لأني أريد أن أرتدَّ إلى الماضي لأعيش في ظلماته وكهوفه وتهاويل خرافاته، بل لأني أرى أن حضارة الإنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية التي كل أجزائها فضائل. أما هذه الحضارة الأدبية العصرية للقرن العشرين، فهي حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة. ولا نقول هذا في العلم - معاذ الله - فإن العلم الحاضر قد استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات، ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليساً في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المستقلة