والاحتمال والإبهام؟ هل أراد من الواقع الواقعَ الذي له اعتبار عام، أم ذلك الذي يدركه هو من أفق ومحيط؟ هل أراد بالعقل العقلَ الإنساني، بغض النظر عما لكل فرد من ثقافة وعادات وعن الفروق الفردية والبيئية، أم أراد به الشائع المعروف كالذي يحكيه الفارابي عن المتكلمين في زمانه من أنهم كانوا يقولون: هذا يقبله العقل، هذا لا يسلم به العقل، ويقصدون بالعقل الشائع المتعارف بينهم، وبذا فهموا المنطق الصوري خطأ واستخدموه خطأ كذلك؟ ماذا قصد من الحس وأي شئ أراده بالتجارب؟ أأراد بها ما يتعلق به خاصة أم أراد تلك التي تكوِّن قواعد العلوم العامة؟
هذه أسئلة يعلق العلماء على جوابها الفصل بين بحث وبحث. فإذا كان الباحث متأثراً بشخصه في وضع (مقياس) الحقيقة سمي المقياس شخصياً. وعليه فالذي يجعل من ثقافته الخاصة، وواقعه الخاص، وعقله وعاداته الخاصة، ونظرته الخاصة في الحياة مقياساً للبحث كان مقياسه شخصياً
والباحث الذي يبعد كل هذه العوامل الشخصية في البحث عن الحقيقة يكون قد قصد إليها متجرداً، وتكون حقيقته التي وصل إليها حقيقة مجردة وعلى قدر تجرده في بحثه مما هو شخصي يكون ظهور حقيقته ناصعة، أي لم يسدل عليها أي غشاء شخصي لا دخل له في ماهيتها الذاتية
والمقياس الشخصي اعتباره بالنسبة إلى الشخص الذي وضعه فحسب؛ فلا تلزم نتائجه غيره ولا تبني عليه أحكام عامة. أما المقياس المجرد فاعتباره عام، لأن تجرده من الأثر الشخصي يبعد عنه نزاع الأفراد ويحمل كل فرد (تقريباُ) على الاعتراف به، ولهذا تكون لنتائجه وأحكامه قوة القوانين والمبادئ العامة
وقد كان الشخص نفسه في القديم معيار المعارف والعلوم، متخذاً ذاته أساساً لبحث الحقيقة والحكم على التصرفات والسلوك الإنساني بأحكام خلقية، فما تخليه حقيقة فهو حقيقة (في الواقع) وما وقع حسنه في نفسه فهو حسن (في الواقع). وأصبحت المعرفة لذلك عبارة عن حقائق شخصية، وأصبح الشيء الواحد له أكثر من حقيقة. ولم يلبث أن أصبحت هذه الطريقة مذهباً فلسفياً عرف بالمذهب الشخصي كما عرف أتباعه بالشخصيين (وهم السفسطائيون في العهد الأول)