ومع أن الفلاسفة الذين جاءوا بعد السفسطائيين، مثل أفلاطون وأرسطو حاولوا التدليل على أن (حقائق الأشياء ثابتة) أي غير متعددة تبعاً لتعدد الأفراد، وغير متغيرة لما بينها من مغايرة وفروق بحكم هذا التعدد، وضعوا لتعرفها قانوناً عاماً يسمى آلة العلوم ومعيار العلوم وهو المنطق الصوري؛ ومع أنهم وصوا بعدم إقحام العادات والعقائد الدينية في البحث لم تخلص معارفهم ولا أحكامهم التي كونوها عن الله، والعالم، والإنسان - وهي فلسفتهم - من التأثر بثقافتهم الخاصة، وبيئتهم الخاصة، ونظراتهم الخاصة إلى الحياة، وهي ما نلمسها في افرق بين فيلسوف وفيلسوف
اتجه التفكير بعد ذلك، وهو البحث الفلسفي، إلى الإمعان في الفصل بين المؤثرات الشخصية، والنظر إلى الأشياء على ما هي عليه في الأبحاث العلمية؛ أو بعبارة أخرى مال إلى تجريد المقياس الذي يتخذ أساساً للبحث من الخصائص الفردية. ولم يستطع العقل (الحر) أن يسير خطوة في تحقيق هذه الرغبة إلا منذ عصر النهضة؛ أي بعد أن أخذت شعوب أوربا تتحر من سلطان الكنيسة
وقد كان لموقف الإسلام تجاه الأبحاث الفلسفية منذ القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشر أثر كبير في التشجيع على عملية الفصل هذه. فبينما كانت الكنيسة في الغرب تفرض أن تكون العقيدة الكنسية المبدأ الذي يأخذ منه البحث مجراه، كان المسلمون في الشرق، ثم في الغرب أيضاً يبحثون في فروع الفلسفة المختلفة؛ في الطبيعة والرياضة حتى في المسائل الإلهية، والأبحاث لنفسية الخلقية، في جو مملوء في عمومه بحرية البحث وأنتج من الفلاسفة المسلمين من استطاع أن ينتج. ووصلت فلسفتهم مميزة الفروع، أي لم يراع في بحثها مبدأ واحد كمبدأ العقيدة مثلاً، إلى أوربا عن طريق أسبانيا
فلما احتك العقل الأوربي الراغب في التخلص من الجولان حول نقطة واحدة، نقطة العقيدة، بالعقل الشرقي الإسلامي الذي لم يتحكم في تفكيره اتجاه خاص، ازدادت رغبته في بحث الكون من الكون نفسه، فترك العقيدة جانباً، أي ترك أهم عامل من العوامل التي تؤثر في بحث الشخص والتي تجعل مقياسه العلمي شخصياً، وعمل على تخلية نفسه من كل اعتبار آخر غير اعتبار (الحقيقة) لذاتها
وكان ديكارت أول فلاسفة عصر النهضة الذي نفذ هذه الرغبة في صورة منظمة كاملة. ثم