للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نحا كثير من الفلاسفة نحوه وهو العمل على وضع مقياس علمي مجرد عن الأثر الشخصي، مقياس ولم يكن اختلافهم الذي بدا في مذاهبهم المنسوبة إليهم اختلافاً في وجوب اعتماد المعارف الإنسانية وفي حاجة يقينيتها إلى مثل هذا المقياس، بل كان في كمية الشروط وفي كيفها التي تحقق مثل هذا المقياس المنشود

وإذن أصبحنا نرى في تاريخ الفكر البشري مقياسين للمعارف: المقياس الشخصي، والآخر غير الشخصي (المجرد)، ونرى كذلك لإنتاجه طابعين: الطابع الشخصي والطابع الذي يتعدى الفرد والشخص

والتفلسف لم يقم - منذ أن قام - إلا لإيجاد المقياس غير الشخصي، وإلا لأن يطبع أبحاث الإنسان وعلومه بطابع الاعتبار العام كي يتخذ منها أساساً واضحاً، بعيداً من النزاع الفردي، في إرشاد الإنسان نفسه وفي تمكينه من السيطرة على بيئته، وبالتالي في تقريب أفراد الجماعة الإنسانية بعضهم من بعضهم من بعض وفي تكوين ما يسمى (بالعقل الإنساني)

والفلسفة في بدئها ونهايتها، وفي قديمها وحديثها، لم تعمل لغير هذه الغاية. وما يبدو في معارف الإنسان الأولى من خيال أو وهم أساسه استخدام المقياس الشخصي في بحثها، وما يبدو في علومه لآن من عقل ومنطق أساسه التقرب بقدر ما يمكن من المقياس الثاني، والتخلي بقدر المستطاع عن العوامل الشخصية في البحث

وعلماء النفس حينما نظموا الأبحاث النفسية الحديثة، فرضوا (للجماعة) نفساً كنفس الفرد سواء بسواء، وطبقوا عليها لذلك مظاهر التطور النفسي من طفولة فمراهقة فرشد وبلوغ

وجعلوا من مميزات الطفولة (الأنانية) أو ما يسمى (بأنا) لأن الطفل في أحكامه يصدر عن (ذاته) وليس عن الواقع المجرد عن شخصه ونفسه. وجعلوا من مظاهر المراهقة الوقوف بين بين، إذ أحكامه وتصرفاته غير واضحة المصدر. ولذا نراه يعيش كثيراً في الخيال الذي لا يمت إلى الحقيقة الراهنة بصلة وثيقة. وأحياناً يساير الواقع؛ ولكنه في خياله ملك ممتع، وفي حقيقته إنسان ضعيف يكثر البكاء والملل من هذه الحياة؛ لأن القلم الذي يسطر به في صحف الخيال لا يقدر على متابعة الكتابة فوق صخرة الواقع. وجعلوا من مظاهر الرشد أو النضوج ربط التصرف بالواقع، وعدم إقحام المؤثرات الشخصية في الحكم عليه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>