بارجواي بأفريقيا، ولم يكد يجوس خلال أرضها حتى أبصر - ويا لهول ما أبصر! - أبصر رجلا يضم أعواد القصب مرغما، وهو يئن من فداحة الألم، كان يعمل مبتور الساق والذراع، ولابد أن يعمل في جد وإلا فضربات السياط - سياط الشركة الأوربية التي تستغله وتستذله - مسلطة فوق ظهره، ولا يدثره غير أسمال قذرة بالية. . . وهكذا كان كانديد، كلما قلب صفحة من كتاب الدهر ألفاها مترعة بالعناء والأذى، وما أحسب الجدران والسقوف قد اقترفت من ذلك العدوان شيئا.
ليبنتز - ومن ذا الذي يود أن يعيش في علم لا ألم فيه ولا عناء؟ أليست المرارة القليلة ألذ مذاقاً وأشهى طعاما من السكر الحلو؟ وهل الشر إلا سبيل للخير؟ فلعلك لو علمت مبعث الشر لخففت من هذه الغلواء، فقد خلق الإنسان مغلولا بطائفة من أصفاد المادة، ولكنه فطر على أن يجاهد في تحطيمها ما استطاع ليصل إلى مرتبة الكمال، ومبعث الشر جميعا هو ذلك الجهاد العنيف الشاق الذي يبذله الإنسان في هذه السبيل، وإذن فليس الشر مقصوداً لذاته، وإنما هو سلم للصعود إلى الكمال.
شوبنهور - لست أرى إلا أن الإنسانية مدفوعة أمام إرادة الحياة دفع الخراف، ولقد زودتها بجعبة من الرغبات تلهب ظهرها وتستحثها على السعي كلما أبطأ بها المسير، وفي تلك الرغبات سم الإنسان الزعاف، لأنه كلما حقق واحدة قامت في سبيله عشرات، والحياة لا تمنحنا أمنية إلا كما يلقى الجواد بإحسانه إلى السائل المحروم، فهو يضر كثيرا ولا ينفع قتيلا، لأنه يطيل في أجل بؤسه يوما آخر. . سر أنى شئت تجد بين الأحياء تنازعا وتنافرا، حرب ضروس وقتال طاحن، وفيم الحرب والقتال؟ لكي يقيموا حياة كلها تعب وشقاء أمدا قصيرا من الدهر. فلو أننا أدركنا رجحان العناء على الجزاء، لعلمنا كم نبذل الثمن باهظا لقاء أنفاس معدودات! الحياة هي الشقاء والشقاء هو الحياة، وجدير بك - أي عزيزي ليبنتز - أن تنقح من عبارتك بحيث تكون:(ليس في الإمكان أسوأ مما كان) لقد كان خيرا لنا ألف مرة إلا تكون! ومن ذا يحدثني عن مهزلة الحياة: فيم بقاؤها وما غرضها؟ ولشد ما يدهشني على الرغم من ذلك أن أرى الكائنات بأسرها تتشبث بالحياة، وتبذل في حراستها كل ما تستطيع، كأنما هي ذخر ذو غناء! إلا من يحدث الناس عني أن يكتموا الأنفاس دفعة واحدة لكي يردوا للحياة كيدا بكيد؟