أنا لا أسلم بأن الأزهر جامد على حاله القديمة، وأرى أنه يتقدم مع الزمن تقدماَ يتفق مع طبيعة أهله في الأناة والروية.
ولو قارنت بين حاله اليوم وبينها منذ أربعين سنة تجلى لك الفرق واضحاً لا غبار للشك عليه. ففي أيام طلبك بالأزهر قلما كنت تجد عالماَ أو طالباً يكتب أو يخطب أو يؤلف أو يتصل بالحياة العامة؛ أما اليوم فأنت ترى أكثر العلماء والطلاب يفكرون ويحررون ويحاضرون ويناظرون ويؤلفون في فصاحة منطق وحسن صياغة وسلامة فكرة
أذكر وأنا مفتش بالأوقاف أنا اقترحنا على العلماء إنشاء طائفة من الخطب المنبرية في الأغراض الاجتماعية المختلفة، فجاءنا أربعمائة خطبة لم نجد من بينها واحدة تستحق النظر. ولكنك اليوم تجد الخطباء في المساجد والوعاظ في المجالس ينشئون الخطب البليغة، أو يرتجلون العظات البالغة فيما تقتضيه الحال من المعاني العامة
على أني أشعر بحاجة الأزهر الشديدة إلى الإصلاح. وأوافق الرسالة على أن الأمر يكاد ينحصر في طريقة المعلم ووسيلة التعليم. وقد أخذنا بالفعل نعالج الإصلاح في هذه الناحية، فضاعفنا العناية بطلاب التخصص لأنهم مناط أملي في المستقبل وموضع ثقتي في الإصلاح، فأنا أتعهد تعليمهم وأتفقد أحوالهم وأشدد امتحانهم، حتى لم ينجح من ثلاثة وعشرون غير ثمانية. ومن هؤلاء أرسلنا وسنرسل البعوث إلى بلاد الغرب ليتصلوا بتيار الفكر الحديث، ومكنا لمن لا يبعث منهم أن يتعلم لغة أوربية في الكلية ليتسنى له بواسطتها أن يزيد في ثقافته.
أما مسألة الكتاب فإني أوثر أخذ العلم من كتب الأئمة السابقين القادرين على صوغ العبارات العلمية في أسلوب ناصع البيان، ولكني أوثر كذلك الإبقاء على طائفة من الكتب المؤلفة على المنهاج التقليدي من تحليل ألفاظ الجملة وتقليب وجوه الفكرة، فإن ذلك سبيل التعمق والاستقصاء والمران لمن عرف كيف يسلكه ويخرج منه. وفي اعتقادي أن غموض النص في نفس التلميذ ناشئ من غموضه في ذهن المعلم. فإذا استطاع الأستاذ أن يحلل عبارة النص في الكتاب ويجلو غامضه من جهة، وأن يجمع أشتات الرأي في الموضوع ويمحص حقائقه من جهة أخرى، تيسر له بعد ذلك أن يلقيه على الطلاب في محاضرة