متناسقة الفكر متساوقة الأجزاء محكمة الصياغة، ومن مجموع هذه المحاضرات في العلم الواحد يتألف الكتاب الذي تريده
على أن الكتاب يتضاءل شأنه كلما سمت قدره المعلم، فإنك تذكر أن أستاذنا الإمام رضوان الله عليه كان لا يجعل في يده وهو يفسر كتاب الله غير (الجلالين)، ومع ذلك كان يستبطن بفكرة النفاذ أسرار الآي ثم يكشفها للناس في معرض من البيان المشرق
وفي الكليات طائفة من المعلمين القادرين يستطيعون أن ينهضوا بالتعليم الأزهري نهضة صادقة. ومِلاك ذلك أن يقفوا حياتهم على العلم، ويقصروا جهودهم على التعليم، وأن يتصلوا بأبنائهم اتصالاً روحياً ليغرسوا فيهم حب العلم فيطلبوه لذاته ولذته
كان أشياخنا يقولون:(أعط العلم كلك يعطك بعضه) وكان منهم من لا ينقطع عن التدريس حتى في المرض، ولا يذوق طعم الراحة حتى في العطلة، ولا يرى (أخذ الدرجة) صارفا عن التحصيل، ولا منصب القضاء عائقا عن الأزهر.
قال لي الإمام محمد عبده وقد زرته بعد نجاحي في (العالمية) بثلاثة أيام: أتستطيع أن تعرِّف العلم؟ فأجبته بلهجة الواثق المطمئن: نعم. وأخذت أسوق إليه ما أعرف من التعريفات المختلفة، ولكنه زيفها جميعاً وقال: العلم ما نفَعك ونفع الناس. فهل ما عندك منه ينطبق عليه هذا التعريف؟ فقلت له: لا. قال: إذن لا تملك من العلم الصحيح شيئاً. إنما هيأت لك دراستك وشهادتك السلم، وعليك وحدك بعد ذلك أن تصعد
إن الذي يظهر الأزهر في هذا المظهر الجامد يرجع بعضه إلى إخلاد القادرين إلى الراحة، وبعضه إلى مجافاة أسلوب العصر مع حسن الاستعداد وتوفر وسائل الاجتهاد ومواتاة أسباب النهضة. أليس من العجيب أن تكون عُدد الاجتهاد التشريعي عندنا أكثر منها عند مالك، وذرائع الابتكار الأدبي في عصرنا أوفر منها في عصر الجاحظ، ثم لا نجد فينا فقيهاً يجتهد بعض اجتهاد صاحب الموطأ، ولا أديباً يؤلف بعض ما ألف صاحب الحيوان؟ لقد كان مالك لا يملك من ثروة الحديث النبوي غير ما صحت له روايته منه، وكان الجاحظ لا يجد من مصادر الأدب العربي غير ما وقع من السماع فيه، ومع ذلك صار لمالك مذهب متبع في الفقه، وانتشر للجاحظ مذهب معروف في الأدب. أما نحن فبين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روى عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من