وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد. . . وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائداً من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادماً لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها. . .
بلى لقد عرف رشيد من شئون صاحبته ما لم يكن يعرف. . فاتخذ طريقاً غير الطريق التي كان يسلكها كل يوم، وماذا يحمله على الزواج من فتاة ليس لها جاه من أهل ولا غنى من مال، وهو لو شاء لوجد عند غيرها الجاه والمال والسعادة. . . هكذا قالت له نفسه، فمضى وخلّفها. . .!
لقد كان أبوها هو كل ما تملك من غنى وجاه، وقد مات أبوها، فماذا بقي؟
ومضى شهر، وراحت نضار تقبض (المعاش) الشهري الذي فرضته لها الحكومة بعد موت أبيها. . . وعادت وفي يدها ثلاثة جنيهات. . . ذلك كل ثروتها، وكل العوض من أبيها الذي مات!
وفي اليوم التالي كانت عربة نقل كبيرة تحمل متاعها من البيت الذي عاشت فيه هي وأبوها ما عاشت. . . إلى غرفة مفردة على سطح بيت كبير من بيوت الحي؛ وكانت الخادمة تحمل صرة ثيابها ذاهبة. . .
وتغيرت منذ اليوم عيشة نضار، وانقادت صاغرة لما فرضت عليها الحياة!
ولزمت غرفتها على السطح، لا تفارقها إلا لحاجة، واعتزلت الناس لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
ومضى عام. . . وهاهي ذي اليوم تفارق محبسها لغير حاجة، تلتمس جديداً في حياتها المملولة الجافة التي تحياها منذ مات أبوها. . . اليوم عيد الربيع. . . وقد خرج الناس من بيوتهم جماعات مبكرين إلى شاطئ النيل، وإلى حدائق الجزيرة ورياض الجيزة والقناطر الخيرية، يتملون جمال الحياة ويتمتعون بما أحل الله وما حرم من طيبات وخبائث. . .
وذكرت نضار ما كان من ماضيها. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذاك على المقعد الخشبي في شارع (مسبيرو) وعليها ذلك الثوب الأسود الحائل، وفي عينها تلك النظرة الساهمة، وفي وجنتيها هذا الشحوب. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذلك فيعرفها ويذكر ما كانت. . .؟
لقد آثرت ذلك المكان القصي الذي لا يطرقه أحد ممن تعرف من سكان الحي، لتكون بنجوة