وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية. فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدريج من نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون. فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل
فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه. وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول. وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد:(إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة. وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء فيضعوا لكل منها سمة ولفظاً يدل عليه ويغنى عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقلبوا مثلاً على شخص ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان! فتصبح هذه الكلمة اسماً له. وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم. . . ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها. وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلاً. ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم أن يضعوا كلمة (مَرْد) بدل إنسان، وكلمة (سَرْ) بدل رأس. . .
وهكذا، فتنشأ اللغة الفارسية. . .)
(النظرية الثالثة) تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني؛ وأن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة (التعبير الطبيعي عن الانفعالات) تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء. . . الخ) كلما قامت به حالة انفعالية معينة (الغضب، الخوف الحزن، السرور. . . الخ)؛ وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها وظائفها وما يصدر عنها؛ وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم؛ وأنه بعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم