يستخدم الإنسان هذه الغريزة؛ فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر والعلامة الفرنسي رينان
وقد اعتمدت مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية. فقد ظهر أن مفردات هذه اللغات ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك؛ وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معان كلية؛ وأنه لا تشابه مطلقاً بين أصواتها، وما تدل عليه من فعل أو حالة.
ففي دلالتها على معان كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها، لأن التواضع فضلاً عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون. وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية، لأن مفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة؛ ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة، لأننا بصدد ألفاظ تدل على معان كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها
وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات) وأصوات الحيوانات والأشياء كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريباً
وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع واتفاق؛ وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره: وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة
وهذه النظرية على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث، فاسدة من عدة وجوه: