١ - فهي لا تحل شيئاً من المشكلة التي نحن بصددها، بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضاً، وهي مشكلة (الغريزة الكلامية)
٢ - هذا إلى أن ما تقرره يعتبر - من بعض الوجوه - من قبيل الشيء بنفسه. فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية:(إن الإنسان قد لفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات) وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى
٣ - على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث، وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني؛ أي البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره
٤ - وأكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة السابق ذكرها تمثل اللغة الإنسانية الأولى. فهذه الأصول، كما تقدم، تدل على معان كلية. ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية. وهاهي ذي الأمم الأولية التي تعد أصدق ممثل للإنسانية الأولى تؤيد ما نقول. فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا واستراليا وأفريقيا وغيرها على ضعف عقليتهم بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدى كبير في لغاتهم؛ فلا نكاد نجد في كثير منها لفظاً يدل على معنى كلي. ففي لغة الهنود الحمر مثلاً يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء، وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء، وهكذا؛ ولكن لا يوجد أي لفظ للدلالة على شجرة البلوط؛ ومن باب أولى لا يوجد أي لفظ للدلالة على الشجرة على العموم. وفي لغة الهورونيين (من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية) يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها؛ ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه. فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز. . وهكذا؛ ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة