للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أطرافه الزهور؛ وتتغنى على شجيراته جماعات الطير. . . ولقد كان هذا الشارع إلى ساعات قريبة يمور بالحياة، ويفيض بالنشاط، ويتقد فيه العزم، ويودع طوائف من الطلبة، ليستقبل طوائف أخرى. . . ولكنه الآن ساكن هادئ. . . إني لأخطو فيه وحيداً ليس معي إلا هذه التأملات العميقة التي يثيرها في ذهني السكون الشامل. . . وإني لأهيم بعد. . . فأمضي حيث تقودني قدماي؛ لا آخذ جهة، ولا أحدد قصداً. . .

- ٣ -

هاأنذا في منبسط من الأرض، ممتد واسع. . . تنطلق فيه صفحة السماء واسعة عريضة، كجنة الأمل؛ وتتراقص فيه الأرواح مرحة عابثة بسنابل القمح القريبة؛. . . لقد بعدت عن العمران القائم، والأبنية الضخمة. . . لكأني أخطو الخطوات الأولى في الريف. . . فأنا لا أسمع حركة (الترام)، ولا جلبة السيارات. . . وأنا لا أرى من برج الساعة، وقبة الجامعة، إلا القمة العالية التي تشبه رأس الصخرة الطافي على سطح البحر وليس من حوالي إلا مزارع وحقول، وتتبعثر فيها الأكواخ، وتمتد من حولها أبسطة العشب الندى

. . . يا لروعة المساء!. . . كانت الشمس تجمع خيوطها المتناثرة لتنحدر نحو الأفق البعيد. . . وقطع السحاب الرقيق تسربل أجزاء من السماء كأنها ثوب ممزق على جسم إنسانة فقيرة. . . والأكواخ المتواضعة تودع النور الحبيب لتغوص في لجج الليل. . . والأفق الزاهي يصطبغ بهذه الألوان العجيبة الماتعة. . . والدنيا كلها ترقب هذا الخط البعيد الذي تتصل فيه السماء بالأرض

. . . لقد كنت إلى حين أجفو أضواء الشمس، وأنأي عنها وأحتمي منها بالظلال. . . ولكنني الآن أتقرب منها وأتحسسها وألحق بها من مكان إلى مكان، كأني أرثي لها هذا المصير، وأخشى عليها سطوة الليل، وأتمنى لها ألا تزول؛ وأحاول أن أمسك بهذه الشعاعات. . . ولكنها تفر مني حتى لا تبقي منها إلا خيوط واهية على قمم الأشجار السامقة

وتقبل هذه الأشجار الأنوار الآفلة؛ وترتعش أغصانها من حمى الوداع. . . وتنطوي الشمس على نفسها قرصاً رائعاً في الأفق البعيد تلقى آخر نظراتها التي بللتها الدموع القانية على الأرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>