والاستقلال بالنفس نعمة من نعم الأخلاق نود لو وفر منها حظ هذه الأمة في بداية استقلالها وفي تجاربها التي تجربها لحماية حوزتها ورد العادية عنها
لأن الرجل الذي يعيش بين الجماهير ولا ينعم بالوقت إلا وهو غارق في غمارها مدفوع في تيارها هو رجل ضائع في الزحام، أو صفر لا ينفرد عما جاوره من الأرقام، أو هو شخصية بغير استقلال وبغير حدود، كأنه يأخذ حياته على المشاع ولا يأخذها مستقلة معروفة الحدود والأقسام
فمن الواجب أن يستطيع الإنسان الاعتكاف في بيته والاعتكاف في شخصه، وأن يكون مالكاً لزمام نفسه ولا يكون مملوكاً لزحام المجالس وضجة الرائحين والغادين على المشاع
وأعجب ما يلحظ في هذا الباب أن الأمم التي تعرف العزلة وتطيق الانفراد هي أصلح الأمم للاجتماع وأقدرها على سياسة الناس
ونقول أعجب ما يلحظ ولا نعني إلا العجب في الظاهر دون الحقيقة الواقعة، وإلا فاستقلال النفس ضمان الحرص على الحقوق وأن يكون لكل حده الذي يقف عنده ولا يخطو وراءه، وأن يضن بحريته ولا يجور على حرية غيره، وتلك هي أكرم صفات الاجتماع والمقارنة، وهي هي لبابها صفة الاستقلال والقدرة على الانفراد
وفي العصر الحديث مخترعات كثيرة تعين على العزلة من يشاء أن يعان عليها
فالكتاب والصحيفة جليسان أنيسان، والمذياع ينقل العالم إلى البيت فينفي الوحشة ويعود من يصغي إليه أن ينفرد وأن يقنع بالقليل من الجلساء، ثم هذه التجارب التي نجرب بها قوة نفوسنا وقوة مدافعنا: أليس فيها معين على الاستقلال من غير ناحية الحرب والأهبة للدفاع؟
بلى! فإنها لتنقل الوحشة إلى الطريق أو إلى المجالس العامة، فينفر منها من تعود الأنس فيها وعز عليه أن يصيبه بمعزل عنها
وتعلمنا أن نركن إلى نفوسنا، وأن نغوص في أعماق ضمائرنا وأن نجد فيها ذخيرة تغنينا وتشبعنا فلا نشكو الخلو في الخلوة، ولا نبحث عن القوة في كل مكان إلا المكان الذي ننفرد فيه
ولعلنا إذ نتعود الخلوة ينتهي بنا الأمر أن نحسبها خلوة اطمئنان إلى النفس والأقربين، لا خلوة الخوف من العدو المغير والفزع مما يضمره الفضاء أو القضاء