للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذلك لقوة تساورني في أوقاتها وتهب عليّ كالريح من سكون وركود، فلم أفكر قط في كتاب من هذه الكتب، ولكن تقع الحادثة، فيجئ بها الكتاب، ثم أرى من بعد صوته وتعلق المتأدبين به ما لم أكن أقدر بعضه وتنتهي إلى آراء مشيخة الأدب وطلابه؛ فإذا هم لا يعدلون بهذا الأسلوب شيئاً في نسقه وألفاظه ومعانيه، ثم لا يعيبه إلا من قصر عنه وشق عليه النزوع فيه وكابر في الإقرار بعجزه، فذهب يلتمس المعاذير والمعايب، وأخذ في ذلك مأخذ فرعون إذ جاءته امرأة فقيرة كانت هي وأطفالها يعيشون على دَرَّ (عنزة) لهم، فماتت، فأقبلت المسكينة بها على هذا الذي يدعي الألوهية ويقول أنا ربكم الأعلى وسألته أن يحييها، فاعتذر بأن في السموات أعمالاً كثيرة أكبر من العنزة. . .

أرى المتأدبين يعرفون لهذا الأسلوب ما يعرفه رجال التربية والتعليم من أساليب إنشاء التصوير وإرهاف الذهن وتدقيق الخيال وقوة الطبع اللغوي وصقله وإدارة الحس عليه. ثم هم يقولون إن موضعه من هذا الكلام الخنث المتهالك الذي ترمي به الأقلام المريضة في هذا العصر موضع الفحولة التي لا بد منها في الخليقة لإيجاد القوة التي لا تكون إلا بالفحولة وإشعار الهيبة التي لا تكون إلا بالقوة. فنحن في زمن كل كاتب فيه قادر على أن يرسل مداده، يمطر وحلاً لغوياً، حتى كل من يعرف القراءة هو كاتب إن صحح أو أفسد، وإن أصاب أو أخطأ، وإن أخذ اللغة والكتابة عن معجماتها ودواوينها ومدارسها، أو أخذها من الروايات والجرائد والأسواق

يقولون هذا ويضيفون إليه أن الفصاحة العربية كادت تنقطع أمثلتها العليا، وأنه لم يعد يكمل أحد في صناعة الكلام وأن زمننا هذا حين ينقلب إلى مرآة التاريخ فينظر فيها، سيرى وجهه متورماً مخدشاً مضمداً ملفوفاً بالجرائد. . . وليس عليه سِمَة جمال ولا فيه من الأدب منظر قوة، وأن اللغة أصبحت أشبه بالبيت المتداعي الذي يريد أن ينقض لا تسمع من أهله ولا من جيرانه ولا من السابلة في طريقة إلا (هدوا هدوا إلى الأساس)

عَلمِ الله يا سيدي الشيخ أني ما كنت أصبر على مصيبة البلاغة. . . لولا ثقتي بأجرها ولولا استئناسي إلى المعزين فيها، وهم جمهور أهل الأدب إلا قليلاً يعزيني بأسلوب آخر يضحكني أحياناً

أما هذا الذي يسمونه غموضاً وتدقيقاً فما أنا بصاحبه ولا العامل فيه، ولكنه طور من أطوار

<<  <  ج:
ص:  >  >>