للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الزمن لا بد أن يسبق نهضته التجديد كما سبقها من قبل. فلقد كانوا يصفون به سيدي شعراء العربية قاطبة أبا تمام والمتنبي، حتى قالوا في أبي تمتم إنه أفسد الكلام وأحاله وعقده بتعمله وصناعته، وإنه أتعب الناس حتى صار استخرج معانياً باباً منفرداً في الأدب ينتسب إليه طائفة من العلماء، وإن أعرابياً سمع قصيدته التي مطلعها: طَلَلَ الجميع. فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا افهمها، فإما أن يكون قائلها اشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وهذه شهادة بأنه اشعر من جميع الناس ولا ريب إذ يستحيل أن يصح الشق الآخر. ثم كان جمع من كبار الرواة يتعصبون عليه كابن الأعرابي والرياشي وغيرهما، بل قد بلغ من تعصب الرياشي عليه وعلى البحتري أن قلَّت نسخ ديوانهما بالبصرة في زمنه لزهد الناس فيهما. ولقي المتنبي شرا مما لقي أستاذه ومثله الأعلى الذي يقلده ويحتذي عليه! ومع ذلك انحدر الشعر كله في طريقتهما إلى عصرنا هذا

ولقد كان المتنبي خَمُلَ اسمه ومُحي من لوح الزمن لو كان يعيب البلاغة عيب يكون معها. فقد قال فيه الإمام العسكري: لا أعرف أحداً كان يتتبع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي، فإنه ضمن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئاً منها. قلنا ولكن جميع عيوب الكلام (بهذا الحصر) لم تزد على أن كانت من أقوى الأسباب في تخليد حسنات الرجل

إن أرفع منازل البلاغة العربية، كما قالوا، أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ولا يبلغ هذه المنزلة أحد فيحكمها ويعطيها حقها من التمييز إلا جعلته الأقدار وسيلة من وسائل حفظ البلاغة يتسلم الزمن ويسلم، بل قل بالألفاظ الصريحة المكشوفة: يتسلم لغة القرآن ويسلمها. فأما أسلوب واحد وطريقة واحدة فهذا في قوة كل كاتب على تفاوت فيه، ولن يكون الرجل حق رجل إلا إذا كان له مع الظرف واللين والدماثة حديداً من العضلات وفولاذاً من العظام، فإن لم يكن إلا اللين محضاً والاسترسال خالصاً فهذا أصلحك الله شيء سَّمه ما شئت إلا أن تقول إنه رجولة. فإذا لم يبلغ كل الناس ولا أكثرهم هذه المنزلة فذلك أخرى أن يعد في محاسن من يبلغها لا في معايبه

ألا لا يحسبن أحد أن الفصاحة العربية هالكة بحياة طائفة من مرّضى القلوب كهؤلاء الكتاب الذين يعملون جهدهم في إفسادهم، فهم مهما كثروا تنتظرهم قبور بعددهم. وفي هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>