بالعنف، وتضطرب بالحياة القوية المتجددة. وكانت الأحداث السياسية والحربية والاجتماعية تجيء في كل يوم بجديد. وكانت الأمة الإسلامية أو الأمة العربية في عصر مالك والجاحظ هي صاحبة السيادة والسلطان المطلق على العالم كله (عالم ذلك العصر)، وكانت حضارات الأمم القديمة العريقة وأموالها وآثارها العقلية والأدبية تنحدر كالسيل في نهر الحياة الإسلامية أو العربية ويملأ ضفافها بالنشاط والحركة والحيوية. وكان المجتمع الإسلامي أو العربي في عصر مالك والجاحظ يشعر بأنه صاحب السيادة على ما سواه من المجتمعات، صاحب السيادة الذهنية والعقلية والأدبية. بل لم يكن يجد أمامه نداً من المجتمعات يمكن أن يقارن به أو يوزن إلى جانبه أو تقام بينه وبينه المفاضلة والترجيح، لأن الأمة الإسلامية أو العربية كانت لذلك العهد صاحبة السيادة السياسية والحربية وما سواهما من السيادات ولم تكن تجد أمامها من توزن سيادته بسيادتها أو تقام بينها وبينه المفاضلة والترجيح
وفي هذه البيئة وفي ظل هذه السيادة التي يشعر بها المجتمع وتشعر بها الدولة لأنها حقيقة واقعة. نشأ مالك والجاحظ فكانت لهما سيادة الذهن وسيادة الفكر والأدب والفن
وهذه الأشياء كلها: البيئة العلمية، والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية، وشعور المجتمع بالسيادة أو بالهوان، ومكان الدولة من القوة والضعف؛ كل أولئك أشياء ليست هينة الشأن في تكوين الأديب والعالم وفي تبريزه وحدة ذهنه وقيمة إنتاجه.
وبالمقارنة بين هذه الأشياء على عصر مالك والجاحظ وبينها في مصر والشرق على عصرنا هذا نستطيع أن نضع علماءنا وأدباءنا حيث يكون موضعهم الطبيعي
ولعل من المفيد أن نذكر هنا قول أبن دريد في مقصورته:
وكل قِرن ناجم في زمن ... فهو شبيه زمنٍ فيه بدا
وقد نجم مالك ونجم الجاحظ في زمن كانت السيادة فيه لدولتهم ودينهم ومجتمعهم فكانوا شبيهين بزمنهم، ونجم علماؤنا وأدباؤنا في زمن فهم شبيهون به
ولا عجب في ذلك ولا غرابة
ولكنا ننتقل من ذلك إلى مسألة أخرى نلخصها في هذه الأسئلة وفي الإجابات عليها:
ما هي القيمة الحقيقية لمالك والجاحظ؟ وهل لا نجد في عصر غير عصريهما من تكون