فماذا كان رأيي الذي كتبته في الرافعي وأدبه؟
إنني كتبت عنه مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية للمنشئين.
وقلت إلى جانب ذلك أنني أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس.
فهل كان في وسعي أن أرى في أدب الرافعي غير هذا الرأي أو أشهد له غير هذه الشهادة؟
كان في وسعي نعم أن أقولها بلهجة غير التي كتب بها عني وكتبت بها عنه.
ولكن هل كان في وسعي بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وأبن سينا وكان وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعي من كبار المناطقة مع حسباني إياه من كبار المنشئين؟
هبنا توافينا على المودة ولم نفترق في الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التي كان رحمه الله يستكثر منها ويمعن في الاتكاء عليها، وهي لا تحتمل الاتكاء؟
فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأنني أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانت وابن سينا وهيوم.
ومن الذي يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل من الذي يستطيع أن يدحض الأمثلة التي ذكرتها ورددت إليها إنكاري عليه ملكة البحث الفلسفي والمنطق الصحيح؟
فمثل من تلك الأمثلة قول الأستاذ في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب إن الحيوان لا ينطق من اللغة الإنسانية إلا بما فيه معنى الطعام (وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً).
فقلت له إن كلمة الخبز بالألمانية تقابلها ألف كلمة في لغات الناس كافة تؤدي معنى الخبز وتختلف في لفظها أبعد اختلاف، وعلى هذا يجوز أن ينطق الكلب بكل كلمة تجري على لسان الآدمي لأن اختلاف الكلمات في لغة واحدة ليس بأصعب على الحيوان من اختلاف ألف كلمة بمعنى الخبز في جميع اللغات.
فهل هذا قياس صحيح؟ وهل هذا بحث في أسرار اللغات؟
وقلت له أن كلمة (سمك) تؤدي معنى الطعام، ولكن السين والميم والكاف تدخل في