فالجمهور في هذه الحالة على استعداد للحماسة والإطناب بغير مقدرة كبيرة في الخطيب.
وإذا كان السامعون مرؤوسين لذلك الخطيب، أو أتباعاً متشيعين لحزبه، يكرهون الغض منه لأنهم يحسبونه غضاً منهم، ويحبون إكباره لأن كبره منسوب إليهم، فهم إذن أكثر استعداد للحماسة والإطناب.
وإن كانوا فوق هذا صغاراً ناشئين يفورون بحرارة السن الباكرة فأحرى بهم وهم جماعات وجماهير أن يستسلموا لما يسمعون، وألا يجشموا الخطيب معجزة الإبداع، ليستجيش بها قلوباً هي من قبل ذلك لا تهدأ من الجيشان.
فأدنى الجماهير إلى التسليم هو جمهور صبية ناشئين يصغون إلى زعيم يفخرون به فخر العصبية، ويسمعون منه صيحة الكبرياء الوطنية. . . وهذا هو جمهور هتلر في جميع المواقف، إلا القليل الذي لا يذكر.
وقد شهد الناس في مصر مجامع يحتشد لها السامعون زرافات زرافات من جميع الطوائف والأسنان، ليسمعوا كلاماً يعلمونه ويحفظونه، من خطيب لا يعجب السامع بصوته ولا بإيمانه. . . بغية الاجتماع في الواقع لا بغية الاستماع
ثم تتكرر الدعوة ويتكرر الإقبال ويتكرر التصفيق الذي لا باعث إلا الرغبة في شيء يثير الشعور ويدفع السآمة و (يبرر) للجمهور وجوده وسعيه وانتظاره، ويربحه من الحكم على (وجوده) بالفناء. والفناء كربة إلى كل موجود، جمهوراً كان أو غير جمهور!
وفي وسعنا أن نشهد كل يوم حشداً من الناس يبذلون من مالهم ليستمعوا إلى ممثل مضحك مشهور في دور من الأدوار.
فما هو إلا أن يلفظ الكلمة الأولى حتى ينفجر السامعون بالضحك والقهقهة. وربما سأل أحدهم جاره: ماذا قال؟ بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين!
فالمصدر الأول للمبالغة والإطناب في شهرة الخطباء هو أبرأ المصادر وأخلاها من الغش وفساد الذمة، وهو دفاع الجمهور عن وجوده حيث انتظم له وجود.
والمصدر الثاني وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير: وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار
فإن الصحيفة الإخبارية لتتعمد التهويل والإغراق في وصف حادثة لا تستحق الالتفاف