للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الواقعة عز علي الهرب وانسدت في وجهي المسالك جميعاً. وكنا نزحف في تلك الأثناء بلا انقطاع، فلم تلبث شجاعتي أن زايلتني، وكنت خليقاً أن أتسلل إلى بطن الأرض. ذلك أن خوفاً كالذي كان يتملكني كان يخلع على وجهي شحوب الموت، وكان يقرأ على سائر الوجوه حتى وجوه أولئك الذين عهدتهم مرحين لا يبالون. وكانت قناني الشراب الفارغة - ولكل جندي منها واحدة - تتطاير تحت وقع القنابل، فإن أغلبنا كان قد أتى

على آخر جرعة في قنينته واستمد منها شجاعته في ذلك اليوم؛ أما الغد فقد لا تكون به حاجة إليها. وتقدمنا الآن إلى مرمى المدافع إذ كان علينا أن نتبادل الموقف وكتيبتنا الأمامية. فيا هول ما شهدت! كانت كتل الحديد تئز فوق رؤوسنا، وتقع تارة أمامنا وتارة تنفذ إلى الأرض خلفنا، فيتطاير اليابس والأخضر والكلأ والحجر؟ وتدهمنا أحياناً فتمزق أجسامنا وتذرو أعضاءنا كما تذرو الهشيم الرياح. ولم نكن نبصر قدامنا إلا فرسان العدو تأتي بمختلف الحركات، فتارة تستعرض وتارة تستدير، وآناً تؤلف مثلثاً وآونة مربعاً تنتظم فيه. وتقدمت فرساننا أيضاً وكرت على العدو. فياله من وابل من الضربات يسقط مقعقعاً، ويمض خاطفاً! ولم تمض ربع ساعة حتى ارتدت فرساننا مدحورة وقد هزمها النمسويون وتعقبوها حتى مرمى مدافعنا. وهذا مشهد ما أجدر المرء بأن يشهده! خيول يعلق فرسانها في الركاب، وأخرى تجر أحشاءها على الأرض. وكنا ي تلك الأثناء ما نزال تحت نيران العدو حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وجناحنا الأيسر لم يطلق رصاصة، على حين كان الأيمن يخوض المعركة ويصلاها.

وظن الكثيرون أنه لا بد من الهجوم حيث يرابط جند الإمبراطورة. ولم أكن إذ ذاك جزوعاً كما كنت من قبل، وإن كانت عفاريت الجيشين لم تفتأ تقتل عن كثب والميدان مغطى بالقتلى والجرحى. وإذ ينتصف النهار أو يكاد صدر الأمر إلى آلاينا واثنين معه بالارتداد، فقلنا لعله إلى المعسكر فنكفي القتال!

وصعدنا مرتفعات الكروم بخطى حثيثة ونفوس مستبشرة، وملأنا قلانسنا من دوالي الكرم وأكلنا من أعنابها هنيئاً، ولم يخطر لي ولمن هم إلى جانبي سوء على بال، وإن كنا ما زلنا نرى من القمة إخواننا في المعمة تحت النار والدخان، ونسمع قصفاً مرعباً فلا ندري على التحقيق لمن كتب النصر. وكان قوادنا يقودوننا في تلك الأثناء مصعدين في الجبل، ممعنين

<<  <  ج:
ص:  >  >>