أما أعمق قصائد (ليالي الملاح التائه) فهي ولا شك قصيدة (كاس الخيَّام) فقد قدر الشاعر في قصيدته هذه على التسلل إلى خوابي نيسابور فشرب من الخمرة التي أسكرت عمر الخيام، ورأى في هذه الخمرة ما لم يره الدهماء من الناس:
قصة الزهد التي غنوا لها ... عللتهم بالسراب الخادع
نشوة الشاعر ما أجملها ... هي مفتاح الخلود الضائع
لقد سكر من خمرة الشاعر فجاء بشعر روحاني من نسيجه، وغمرك بجو سري يدرك بالحس إذا أرهف وعمق، ويحملك - على غير هوى منك - إلى نعيم من الحياة لن تقدر لك متعة فيه إذا لم تكن شاعراً في أعماقك
كأس الخيَّام هي الحياة كما يجب أم يكون، فيها الخمرة الخالدة، هذه الخمرة التي فقدها الشعراء:
أيها الخالد في الدنيا غراماً ... أين نيسابور والروض الأنيق
أين معشوقك إبريقاً وجاما ... هل حطمت الكأس أم جف الرحيق؟
وكأني بالشاعر قد فرغ الشعراء من حوله، يقول لهؤلاء: (الكرمة ما تزال خضراء، والمرأة ما تزال جميلة، والطبيعة لم تخل عن عهدها، فلمَ خثر فيكم الحس وجف الرواء؟ أتراكم ضللتم طريق الخمارة المحيية؟)
كلما لألأ في الشرق السنا ... دقت الباب الأكف الناحله
أيها الخمار قم وافتح لنا ... واسقنا قبل رحيل القافلة
لزوال الحياة وأوهامها اللذيذة في هاتين الكلمتين: (رحيل القافلة)، وقعه في نفسي كتلك (الكوكو) من مطوقة الخيام على طاق كسرى.
وقد لا تشيع فيك الكآبة مما في (ليالي الملاح التائه)، حتى تشيع فيك غمرة من الطرب، ويلتقي هذا الطرب وتلك الكآبة في مزبح يلطف في نفسك ويخلق حولك جواً يوحي إليك شوقاً وحسرة، وشوقاً إلى متع الحياة، وحسرة على زوالها
ها هم العشاق قد هبوا إلى الوادي خفافا
أقبلوا كالضوء أطيافاً وأحلاماً لطافا
ملأوا الشاطئ همساً والبساتين هتافا