وأهم من هذا هو أن الإجماع الذي حقق في الماضي قوة التعادل ومطابقة العصر ليس بعيداً أن يكون نواة قوة لمكافحة الجمود والنفوذ الشخصي إذا ما أستغل استغلالاً مرضياً وهو ما نتركه للمستقبل.
وقد يظهر غريباً إذا قلنا إن عوامل التجديد قد أظهرتها وحددتها طريقة أهل السنة نفسها، ذلك أن طريقة أصول الفقه إن تكن لا خلاف فيها في أوساط أهل السنة، فقد وجد من العلماء المفكرين من لم يقبل البقاء بعيداً عن دائرة الاجتهاد. وظهر له أن التقليد والتمسك بمذهب بعينه أمر لا يحتمل، وعند ذلك حدد هؤلاء العلماء من أول الأمر - شعروا أم لم يشعروا - دائرة هذا الأصل الخطير - أعني أصل الإجماع - وضيقوا من نتائجه. فالإمام الغزالي نادى بالاجتهاد وكثير ممن جاء بعده فعلوا ذلك أيضاً مثل أبن تيمية والسيوطي. وقد أستند المصلحون من ناحية أخرى في مناهضتهم للإجماع إلى أن تحديده بقى وقتاً طويلاً مجالاً للأخذ والرد حتى استطاع آخر الأمر أن يأخذ هذا المحيط الواسع الذي انتهى إليه.
وقد جاهد الحنابلة من بين المذاهب الأربعة جهاداً كبيراً في سبيل الاجتهاد لأجل مصلحة السنة نفسها التي عرفوا بأحيائها. فأبن تيمية وتلميذه أبن القيم استعملا هذا السلاح ضد البدع الكثيرة المنتشرة. وقامت على هديهم وفي روحهم حركة الوهابية بجزيرة العرب أثناء القرن الثامن عشر الذين حاربوا البدع وأزالوها من البلاد المقدسة، وتعاليم محمد بن عبد الوهاب مؤسس هذه الحركة متفقة تماماً مع تعاليم أبن تيمية، فقد كان يدعو إلى التمسك بالدين في الشكل الذي كان عليه في حياة النبي وصحابته، وكان غرضه الرجوع إلى الإسلام، في الصدر الأول، وذلك إنما يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما. وإذا ما أتهمه خصومه بأنه مخالف للإجماع حدد سلطان الإجماع وحصره مخالفاً في ذلك جمهور أهل السنة. ولا يخفى أن هذه البدع التي حاربها بشدة وعدها كفراً كانت في الواقع مقبولة بإجماع المسلمين.
وقد بلغت درجة الكفاح أشدها عندما أتهم أبن تيمية والوهابيون بأنهم خارجون عن الدين وعلى جماعة المسلمين وتعاليم أهل السنة السائدة. ولكن الوهابيين وقفوا في مكانهم ثابتين متمسكين بمذهب الإمام أحمد. وكما أن مرّ الأيام قد خفف من الحكم على أبن تيمية، فكذلك