نواحيها. . . لقد كان يخيل إليه أن النسيم من حولها يطوف بها متعبداً خاشعاً ثم يسعى إليه حاملاً نفحة من نفحات الجنة. فكان يحس دائماً أن جوها ينتقل إليه فينفذ إلى قلبه، فيقعد هناك يتمتم يحدثه بأخبارها أو يصف له منها ما يوعب هذا القلب الحزين افتتاناً ولوعة وحنيناً
لقد شبت الصغيرة. . .، فنضت عنها كل مطارف الطفولة، وتجلت جلوة العروس في زينة من الصبى والشباب. لقد خلعت كل قديمها، ولكن شيئاً واحداً بقي كما هو، لا بل بقي أقوى مما كان وأصفى. تلك هي روحها، الروح القوية الآسرة المتسلطة. تغير كل شيء إلا عيونها التي تشف عن هذه الروح التي لا تتغير. فالنظرة الباسمة الخاطفة التي كانت تخضع بها تمرد ذلك الصبي العارم الصغير، هي هي النظرة الباسمة الخاطفة التي هجمت منه على الرجل فأضاء وميضها له الطريق، وحبسته بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معاً. . .
ثم نحى صاحبي بصره إلى قطع من الليل جاثم من عن يمينه وأطال النظر في جوفه. ثم خيل إلي أنه قد جعل يصغي إلى همس الليل، ويتسمع وسوسته الخافتة إلى رمال الصحراء، وبقي زماناً لا يكاد يتحرك، ثم انتفض في مكانه انتفاضة خفيفة - ما رأيتها ولكن رعدتها جرت في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها
ثم عاد ألي يتنهد ويقول:
هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . .
وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عن دون خبره، وأردت أن استفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول:
أما هو - يا صاحبي! - فقد كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. .
فانقض علي بصوته يقول:
كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك لا تعجل عليه إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملني على