ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي
إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقي من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صواه وعفت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبداً إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو!! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق!!
سكت صاحبي قليلاً وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيداً. . . كذلك كانت هي كما وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلاً ضرباً متوقداً ثائراً عنيفاً، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبداً أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوي على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه. ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحياناً بارقاً ساطعاً يتدارك ويتلهب، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها. . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مراراً أن نظرته هذه إنما تكوي من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسلع النار على الجسد
لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان - مع كل هذا الذي وصفت لك إنساناً وديعاً رقيقاً. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنوناً حزيناً، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر - فيمن رأيت من الناس - من هو أبعد منه مذهباً في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضاً، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غمر يختدعه عن نفسه كل أحد،