كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، ولم يألُ دأباً من يومئذ؛ وعرفتْه سعدية مما قرأتْ له، وكانت رسالتها إليه أول الصدى الراجع، وكانت هي أول من عرف من قرائه؛ وتوثقتْ بينهما الصلة، وكانت في أوَّلها إعجاباً بالعقل الجميل فعادت أملاً يأمله وحلماً يتراءى لها. . . ومضى الفتى إلى غايته والحياة تُجِدُّ له في كل يوم أملاً وتوقظ عاطفة!
وكتب وخطب، ونظم وألف، وراح يناضل في جهد الجبابرة ليشق إلى المنزلة التي يتنورَّها من بعيد؛ وقالت له فتاته:(متى أراك يا حبيبي هناك؟) ولم يجبها فتاها، لأن عينيه كانتا تنظران إلى هناك!
ومشيا ذراعاً إلى ذراع بين الحدائق الضاحكة صامتين، أما هي فكانت تبحث بعينيها بين الفروع الراقصة عن زهرة نضرة تقطفها عن أملودها لتجعلها في صدرها زينةً تتيه بها على لذاتها وصواحبها، وأما هو فكان في إطراقه وصمته يتسمَّع نجوى الغصون وهمس الزهر لينظم منها قصيدة ترفَّ رفيفَ الغصن وتنفخ نفخَ الزهر! وطال عليها الطريقُ وما بلغتْ، فقالت: متى يا حبيبي. . .؟ وقال. . . ولم تعَ ما قال ولم يعَ ما قالت؛ وتدابرا ومضى كلٌ منهما لغايته، وراحت تبحث عن الزهر وراح يبحث عن معناه. . . وكان فراق بينهما!
وعاد إلى داره في المساء وما في الدار غير خادمته العجوز، وجلس إلى المائدة ينتظر عَشاءه، وأبطأت الخادم لأن الدار لم يكن فيها عَشاء فتأني به. . . وضحك حين عرف، وعيَّث في جيبه قليلاً ثم امسك، وآثر أن يطوى ليلتَه بلا عشاء؛ فإن ذلك أخلَقُ يَجِمع له نفسَه ويوقظ حسَّه!
وجلس إلى مكتبه لحظات يقرأ بريد المساء؛ وكان بينه رسالةٌ تنفح عطراً، وقرأ. . .
(سيدي. . .
(. . . وإني أرسل إليك تحياتي على البعد. . .
(إنها لحظاتٌ سعيدة حين أقرأ لك فأشعر أني منك على مقربة وأنك مني. . .