وابتسم الفتى ثم عبس، وذكر سعدية. . . ثم طوى الرسالة وأودعها غلافها؛ وقال وكأنما يتحدث إلى شخص يجالسه: ليتك تعرفين يا فتاة وليتني أعرف! بل إنني أريد أن تعرفي! إنك تنشدين الزهر ليكون لك زينة تباهين بها في المحافل، وإنني أنشد معناه لأتخذه وحياً أتصل بأسبابه إلى السماء. . . كذلك كانت أختٌ لك من قبل!
ولكنه كان راضياً. . .
لم يبلغ المجدَ الأدبي الذي يناضل له منذ بضع عشرة سنة، ولم يبلغ الغنى، الغنى الذي يكفيه حاجة الحيَّ إلى وسائل الحياة؛ ولكنه كان راضياً، لأنه كان مؤمناً بنفسه، ومؤمناً بغده! ومضى على وجهه. . .
. . . وراح إلى السماء عشيةً يتزود لفنه وأدبه ويستجمَّ، ثم عاد. . .
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره. . .
وكان عليه أن يسد الخطبة التي طلبُ إليه أن يذيعها بعد أيام، احتفالاً بذكرى الأديب الراحل فلان؛ ذلك واجب لا يعفيه من إغفاله أن يعتذر؛ فإنه لصديقه، وإن له عليه ديناً يقضيه الوفاء أن يذكره به فيتحدث عنه حديثاً في يوم ذكراه!
وشرع قلمه، وهم أن يعد الخطبة التي ينبغي أن يذيعها عن صديقه الأديب الراحل في يوم ذكراه. واستجمع فكره، وتذكر شيئاً. . .
يا عجبا! ذلك الصديق الذي يهم أن يتحدث عنه، ماذا كان في حياته، وماذا هو اليوم عند الناس؟ لقد عاش حياته يجاهد لأمته ما يجاهد صابراً محتسباً قانعاً بالكفاف، لا يذكره أحدٌ بحق ولا يعرف له بداً. . . فلما غاله الموت - لما غاله الموت فقيراً معدماً بعيد الدار كثير الولد - تدانت الرءوس، واختلجت الشفاه، وسحت العبرات، وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكراه، فإن حديثه اليوم على كل لسان، وإن ذكره في كل قلب. . . كذلك كان حياً وميتاً، فما متاُعه بما صار وما عزاؤه عما كان؟
ماذا؟. . . أليس يعرف الناس للأديب حقه إلا أن يموت؟ ما أغلاه ثمناً للمجد!
وابتسم الفتى ساخراً، ثم سكت، وعاد إلى نفسه يؤامرها. . . وانصرفت نفسه عما هو فيه؛ وتناول حزمهً من الرسائل لم يقرأها بعد، وفض منها رسالة، وقرأ: