هؤلاء الأخيرين عشرة آلاف، ولم يكن سكان إنجلترا وإيفوسية يومئذ يزيدون على أربعة ملايين
وسر ذلك أن القوة قد اشتدت في سلاح الفتك وسلاح الوقاية على السواء؛ فالمدفع الذي يقتل ألفاً تخيفه طيارة يديرها رجل واحد؛ والأسلحة التي تبذل فيها الأمة ألف مليون يصدها الحصن الذي تبنيه الأمة بمائة مليون، واللغم الذي يودي بالمدرعة العظمى يلقطه وعشرات معه زورق صغير
ولكل شيء آفة من جنسه!
والفضل للعلم الحديث الذي صدم الشر بالشر فوقفا متكافئين، ولو انطلقا بغير رادع لهلكا متسابقين إلى الهلاك
فالحق أننا لنتخيل الدنيا وقد احتشد في جانب منها عشرات الملايين، وترامت بينهم ألوف الجثث وهم بعيدون من المعقمات التي اخترعها العلم والمطهرات التي صنعها العلم ووسائل العلاج التي استنبطها العلم، ثم نتخيل ما وراء ذلك من أوبئة وطواعين، ومن حميات وأدواء، ومن صرعى لا يجدون القبور ولا القابرين، فلا يسعنا إلا أن نغضب كما غضب الأستاذ من الحرب، وإلا نثور كما أثار الأستاذ على البغاة الآثمين، ثم نخالفه بعد ذلك فننادي بالعلم جهد ما نستطيع من نداء: مكانك فينا أيها العلم فلا رحمة لنا في عهد الحصان والسنان، وإنما الرحمة لنا في عهد الإعصار والبركان، ومن يلجم الإعصار والبركان. لأننا إذا رجعنا كرة أخرى لم نفقد الشر الذي يضري بالقتال ويغري بالعدوان، بل فقدنا الضياء الذي يرينا الشر والخير يتصاولان ويتكافآن، أو فقدنا شراً يدفع شراً فلا يبغيان ولا ينطلقان
أذكر كلمة للعالم الكبير (أوليفر لودج) يقول فيها إن خلقة (الميكروبة) مكسب كبير لعالم الحياة، فلو فرطت فيه الدنيا لبقيت عند المادة الصماء، ولم تتجاوزها إلى ما وراءها من عالم الأحياء
وهذا الذي قاله أوليفر لودج حق عظيم
فلو أننا استطعنا أن نتخيل أنفسنا في مطلع الخليقة، وأن نتخيلنا مسؤولين: هنا مادة صماء تبقى أبد الآبدين مادة صماء،