المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبية التي كانت تحيط بنفسه عمراً من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطرباً حائراً يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدا البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المهمة القذف. يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت!! أين كنت؟
اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سوى مؤيداً بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذاً مقدماً لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حاله من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجري في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعاً موسيقياً هفافاً آتياً من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدى يتردد:
أنت، أنت!! أين كنت؟
فتجيبها الروح من أعماقها:
أنا هنا، أنا هنا!! أيتها العزيز!
هكذا بدأ بدؤه وقد نام كل ما فيه وخضع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتر، ثم دبت في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورق شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندي المتروح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد - بعدئذ - برجولته يتوحش، فارتد إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعاً ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الفيل المفقود الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وا رحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر