أرأيت إلى ما وصف لك من أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذل أو تتهضم؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئاً غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعاً يلوذ بها خاشعاً متضرعاً، وكل ما بذخ وسما وتعضل فهو يتطامل لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنيناً ولوعة
وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقداً على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما أنهد بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غول الصحراء، وهو هائم على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع
كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك ما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب به وبوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطي النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلاً رائعاً، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالاطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعاً عنيفاً لا رحمة فيه، وهو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيماناً لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطيء وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن
وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائراً في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عنه صديقه، وما صديقه إلا هو وكنت ألمح