استغلال الطغاة لحرية الشعب. فكان إذا أراد أن يفرغ من عمله مبكراً أو يخلص إلى شأن من شؤونه طاف بتلك الأماكن طوافاً سريعاً لا يكفي لإيقاظي من تأملاتي أو إخراجي من ترددي، ثم ردني إلى منزلي، ولما تدق التاسعة قائلاً:(تفضل) فأنزل دون أن أنتبه لما حدث. وفطنت ذات ليلة إلى إرادته. وكانت بي رغبة في السهر. فما تمالكت أن ثرت لحريتي المسلوبة وصحت:(أنت غرضك تنومني المغرب! قسماً بالله العظيم ما أنا نازل)
هكذا كان شأني في المسكن الخاص بين أولئك الخدم. وقد لبثت على هذا الحال زمناً اختمرت فيه داخل نفسي جراثيم الثورة الكبرى على هذا النظام فبينت النية ذات ليلة على خلع نير هؤلاء الذين يسمون أنفسهم خدماً لي. فلما كان الصباح أعددت حقائبي، واستدعيت البواب وطلبت إليه أن يبحث عمن يحل محلي في هذا السكن بأثاثه ورياشه. فأتى إلي برجل إنجليزي وزوجته فتركت في عهدتهما كل شيء حتى كتبي، وغادرت ما في البيت من أشياء خصوصية ومن مؤونة حتى زجاجات المياه المعدنية وعلب الجبن والمربة والزبد والبن والشاي والفطائر، وطردت خدمي، واستغنيت عن سيارتي، وانطلقت بمفردي حراً من جديد، أتنقل في الفنادق وأطوف بالشوارع، وأقفز إلى عربات الترام وسيارات الأوتوبيس، وأختلط بالناس، وأمتزج بالجماهير. فأحسست كأن الدم يعود حاراً إلى عروقي. وأن قدمي قد فرحتا بلمس الأرض من جديد، وأن فكري قد عاد إلى انطلاقه ونشاطه، مع السير الحر بالأقدام في كل مكان، وملاحظتي الناس في الطرقات قد أخصبت ذهني الذي حبس طويلاً خلف الزجاج، وجعلت أقف على بائع الذرة وهو يشوي كيزانه على عربته الصغيرة فأحادثه وأباسطه لا يتعجلني سائق ولا تنتظرني سيارة، وأصغي إلى حديثه الطويل في ذلك الليل مع كناس الجهة. فأشترك معهما في الحديث والسمر، ورأيت الكناس يسامر البائع طمعاً في كوز، والبائع لاه عنه لا تخطر له العزومة على بال (فإن الشغل شغل) في عرف التجار، فشريت أنا كوزين أعطيت للكناس واحداً واستبقيت لنفسي الآخر. فدعا لي الكناس الدعوات الصادقات، وجعل يأكل ويقص علي مما عنده من أحاديث العامة البريئة اللذيذة. . .
عرض هذا الشريط كله في رأسي عندما سألني المخرج ذلك السؤال. ولم أجبه بشيء غير تلك الابتسامة التي أثارتها هذه الذكريات. . .