وأمتع. ولطالما أمرت الطاهي أن يحضر لي مما في قدورهم هم ويحمل كل هذه الألوان التي نسقها تنسيقاً ظاهراً دون أن يضع فيها روحه وقلبه. . .
وليس هذا كل شيء. فقد علمت أن الطاهي يعد على حسابي قدراً كبيراً يقدمه بالأجر إلى بوابي الجيران؛ وأن الخادم يدعو جميع زملائه النوبيين كل عصر عقب انصرافي إلى تناول الشاي.
ولم يدهشني ذلك فإن نفقاتي بمفردي كانت دون أن أدري نفقات أسرة كبيرة مكونة من عشرة أعضاء، وما نبهني إلى ذلك إلا ضيف عابر. على أن كل هذا لم يغضبني كثيراً. إنما الذي أثارني حقاً هو مسمار صغير وجدته يوماً في لون من ألوان الطعام، كدت أزدرده. . . هنالك لم أطق صبراً. وعلمت أن الخدم بلا رقابة هم خطر من الأخطار العامة. . . وما ملكت نفسي عن الصياح فيهم يوماً (والله لأتزوج لكم وأمري إلى الله)
أما السائق فلا يريد أن يصغي إلى رجائي كلما طلبت إليه ألا يسرع. فأنا أبغض السرعة. إنها تمنعني من التفكير، ولطالما أكدت له أني لست متعجلاً شيئاً. ولا شيء في الوجود يستعجلني، فأنا عدو الزمن والوقت، ولم أهمل ساعة قط، فالوقت عندي ليس من ذهب بل من تراب كأجسامنا. . . ولكنه ينطلق بي رغم ذلك، كأنما يريد أن يطرحني في أسرع وقت، ليخلص مني وينصرف إلى شأنه. فكنت أتركه أحياناً يقف منتظراً في جانب الطريق وأسير مفكراً حراً حيث أشاء. ثم أدرك أخيراً أني لا أحب السهر وأني شديد الكسل وأني أكتفي بعبارة أقولها له كل عصر:(أطلع جهة فيها هواء نقي)(فين؟)(أي جهة تختارها)، فيمضي بي حيث يريد هو دون أن أعترض ويقف بي أحياناً حيث يشاء ويقدر أن المناظر جميلة والهواء منعش فلا أتكلم، فإن فكري منصرف دائماً عنه، ما دام لا يسرع بي ولا يقول لي:(تفضل). إلى أن يرى أن الأوان قد آن للتحرك فيقودني إلى حيث أتناول الشاي أو العشاء في الأماكن المعتادة. فإذا أمرته أن يذهب بي إلى السينما. . . فقد عرف ألا يسألني أيها. بل يمضي بي طائفاً على جميع الدور، فيقف أمام كل باب من أبوابها لحظة، فإذا نزلت فقد انتهت مهمته. وإذا لم أنزل فإنه يتحرك إلى غيرها. . . وإذا مر بجميعها فلم أغادر السيارة فإنه يعود بي من تلقاء نفسه إلى المنزل ويقول لي:(تفضل). فأنزل في صمت، وقد شعر بقدر هذه السلطة الواسعة في يده فاستغلها آخر الأمر