للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فمشينا بينهم، ودخلنا الحصن، فوجدنا الأمير قد أعد لنا مجلساً في رحبته، يشرف على الفضاء، ودعانا إلى المبيت، وألحف علينا، وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نعتذر ونتملص، لا أدري أكان ذلك حياء من الأمير أن نطيل المكث في ضيافته، أم كراهية البقاء في هذه البليدة الساكنة سكون المقبرة، الخالية من كل شيء يشغل أو يسلي، أم حماقة وطيشاً ولعل ذلك هو الأقرب. . . فلما يئس منا عرض علينا العشاء فأبينا واجتزأنا بالشاهي نشربه إذ لم يكن منه بد، وأخرجنا مما كان معنا حلوى من حلويات دمشق التي ملأت شهرتها الآفاق، وعجزت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فعرضنا منها على الأمير فطعمها فأعجبته وقال لنا، إن ما ذاق مثلها، وخير ذلك ألا يذوقها فيعوده مذاقها الترف والنعيم، ويسلبه روح الصحراء

وانتهى المجلس مع الغروب فقمنا إلى الصلاة، ثم استقبلنا البادية القاحلة حيث لا نجد حاشا تبوك والعلا، داراً مأهولة، ولا منزلاً معموراً، ولا نجد إلا الرمال والصخور والشمس الملتهبة، والفضاء الأرحب، حتى نصل بمشيئة الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

سرنا فما جاوزنا غير ساعة حتى أظلم الليل، وتوعرت الأرض، وتعذر المسير، فأمرنا الدليل بالنزول، فنزلنا وجعلنا من عادتنا بعد ذلك ألا نسير إلا نهاراً، وإن اضطرنا إلى مشي الليل اخترنا الإدلاج من آخره إلى المسرى من أوله. . .

وكان نزولنا في أرض رخوة ما ألقينا لها بدلاً، فلما نصبنا الخيمة وبسطنا البسط وقعدنا إذا بها تعصر ماء، وإذا هي سبخة من تلك السباخ التي يستخرج منها الملح، فتفرقنا وأبعدنا رجاء أن نصيب أرضاً خيراً منها فما وجدنا، فاسترجعتا وندمنا على ترك البلد، والسفر ليلاً، والإعراض عن دعوة الأمير، وأمضينا الليل على شر حال، منا من نام وسط الوحل، وما السبخة إلا وحل. فأصبح يشكو الرثية (الروماتزم) أو يحس الأذى في ظهره، ومنا من لبث الليل كله في السيارة لا يستطيع أن يتحرك أو يمد رجله، ولقينا من الشدة ما ذكرنا معه بالخير ليلة (أم الجمال)

رب ليل بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه

تبدل عليَّ كل شيء مذ فارقت (القُريَّات)، فلقد كنت قبل أن أصل إليها أفكر فيها وأراها

<<  <  ج:
ص:  >  >>