غاية سفري، فصرت أمشي من بعدها لا أعرف لي غاية إلا تبوك، وأين نحن من تبوك حتى نفكر فيها؟ وكيف وبيننا وبينها أيام وليال؟ وكنت آسف على فراق دمشق فصرت لا أفكر فيها إلا لماما، وأحسست كأني منقطع حقاً عن العالم، فلا بشر إلا الرفقة التي أصحبها، وليس إلا الرمل والتلال والسراب مشهد نراه، وكان عملنا كله التدقيق في الأرض، والانتباه إلى الدليل، لنجتنب الخوض في رملة، أو المرور على شِعب، أو الالتقاء بصخرة. ولقد كنت أنظر تارة إلى هواننا إلى الصحراء، وأفاضل بين صغرنا وجلالها، وفنائنا وبقائها، فأحس الصغار، وأشعر بالعجز، ثم أنظر فلا أرى فيها إلا إيانا قد انفردنا بين شرقها والمغرب، وانبسطت تحت أرجلنا وامتدت إلى الأفق البعيد، ونحن نغزوها ونوغل فيها، ونحمل حرها وبردها، ولا نبالي شمسها ولا رملها، فتغمر نفسي القوة، وأرفع رأسي فخاراً، وأتيه زهواً. . .
وكنا نسير النهار كله، سيراً بطيئاً. وما أكثر ما نقف نخرج من سيارة غاصت في الرمل، أو نتحرى خير الطرق، أو ننظر في (الموصلة) لنتبع أبداً الجنوب، وكنا أبداً على استعداد للوثوب من السيارة. فإذا مالت الشمس وأصفرت، نزلنا فنصبنا خيمتنا وأكلنا وشربنا الشاي. . . وأنا أحلف أني على ولعي بجمال الطبيعة، وارتيادي الجبال والأودية، ووقوفي بالعيون والينابيع، ومقامي على الشواطئ وحيال الشلالات، ما رأيت منظراً أجل ولا أجمل ولا أحفل بالعظمة والمتعة كم أماسي الصحراء، حيث تضطجع على تلة من التلال، ثم تمد بصرك إلى الجهات الأربع فلا يحجزه حاجز، ولا يقف في سبيله شيء، فترى الشمس وهي تغيب في الأفق الغربي، وظلال الليل وهو (يشرق) من الأفق الآخر، والنجوم وهن يطلعن في السماء الصافية، وتحس بلطف الليل ورقة نسيمه، كما أحسست بجلال النهار وحدة شمسه، ثم تقوم مع الفجر قوياً نشيطاً، قد قبست من روح الصحراء روحاً جديداً، لتستقبل الحياة بعزم جديد!