تغشى من حسن وجلال. ولقد اهتدى أحد فلاسفة اليونان القدماء
ببصيرته النافذة إلى معرفة هذا السر الموجود في كل كائن فقال: إن
للأفلاك موسيقى تنظم حركتها ودورانها، وتحفظ توازنها وبقاءها،
وأكبر ظني أن اليونان شعروا منذ القدم بهذا الحقيقة الجميلة، وربما
كان هذا الشعور هو السبب في نبوغهم في فن الشعر، وتفوقهم على
العالم فيه، فقد نظروا إلى الطبيعة نظرة جمة الضياء، غزيرة الشعاع،
فتبينوا باطنها وكشفوا داخلها، وعرفوا أن الموسيقى هي قلبها بل هي
جمالها وجلالها، فأخذوا يقتربون منها، يحاولون أن يعرفوا أسرارها
ويمثلوا نغماتها، فكانت هذه المثل العليا في فن الشعر التي لا يزال
شعراء العالم يحتذونها حتى الآن.
والمعاني الموسيقية التي يغنيها الشاعر لا ينقلها إلينا من الطبيعة نقلا وإنما يمزجها بقلبه، ويخلطها بدمه، ثم يقدمها إلينا فتؤثر فينا تأثيراً جميلا، لأنها تصدر عن القلب، وكل ما يصدر عن القلب يؤثر في القلب، ولكن جماعة من النقاد زعمت أن الشاعر لا يرينا شيئاً أكثر من الواقع الخارجي نفسه، وكل ما يملك تلقاءه إنما ينحصر في كشف حقائقه، وكأنهم أبوا إلا إن يفسروا كل شيء في الوجود تفسيراً ماديا فأنكروا الخيال وأنكروا المثال، وما عرفوا أن في الوجود شيئاً آخر ليس حقيقة مقيدة، ولا مادة محسوسة، وإنما هو نور يشع على وجه الطبيعة، فيشرق على قلوب الشعراء، ويختلط بما فيها من نعمة وبؤس، وشقاء وسعادة، وبكاء وفرح، ويمتزج بما يسري في روعهم من خطرات وأفكار وخوالج وآراء، فإذا هو نغم مزيج من الإنسان والطبيعية، وغناء خليط من قلبه وقلبها، بل من خياله وجمالها.
وقد يكون من الجحود أن نقول إن الشعر من الأعمال الموضوعية التي لا يتبين لصاحبها فيها أثر، والتي يقتصر فيها على إبداء الملحوظات وذكر التنبيهات، فان الشعر ذاتيا أكثر