منه موضوعيا وداخليا أكثر منه خارجيا، وهو يعني بتقديم شخصية صاحبة قبل عنايته بتقديم الموضوع الذي يحاول الكلام فيه، وما التصويرات والأفكار الشعرية إلا الواقع كما نحلم به ونتخيله، لا كما نراه ونشهده، ولو كانت مهمة الشعر هي نقل ما في الطبيعة لكان تكراراً قليل القيمة، ولو كانت هي فكرته عن الجماللكان أقل قيمة وأدنى درجة، وإنما تتركز مهمته السامية في أنه الحلقة الربطة بين الطبيعة في أجمل مظاهرها وأسمى معانيها وبين روح الإنسان، وإذن فالشعر لا يبتغي نقل حقائق الأشياء ولا إظهار جانب الحق وتزيف الباطل منها، فان لذلك لساناً خاصاً يقوم به. ونحن لا ننكر أن الشاعر يحب الحقيقة فان الحقيقة في ذاتها محببة إلى كل نفس ولها سلطان على القلوب لا يمكن أحد أن يجحده، ولكنا نقول إننا لا نريد من الشاعر بيان الحقائق، وإنما نريد منه تحديثنا عن الجمال المستتر في الكون، وتمثيل الموسيقى التي تؤلف بين أجزائه ووحداته، وينبغي أن ننبه إلى أن الشاعر يعرف الحقيقة معرفة أخرى غير المعرفة التي يعرفها الرياضي والرجل العادي، وكأني بالشعر ينظر إلى الأشياء من جهة خاصة به، وينظر إليها العلم من جهة ثانية، والدين ينظر إليها من جهة ثالثة، وقد ينظر إليها الشعور العام من جهة رابعة، أما هؤلاء الذين ينطقون عجبا قائلين أي حق هذا بينما يقرأون شعر الشاعر إنما هم لا يعرفون كيف يستفيدون من الفن الاستفادة الصحيحة، ولا ينتفعون بها الانتفاع الواجب وهم يضيعون أوقاتهم من حيث لا يشعرون، وإلا لو كان الأمر كما يظنون لانقلب الشعر إلى صور من الحجج والبراهين
على أن الحقيقة الواحد ة قد تتبدل من حين لآخر أمام الشاعر الواحد، ويتبين هذا من أننا نلاحظ إن الشاعر المحب إذا كان مسروراً بش للطبيعة وبش للسماء، وتخيل كأن كل شيء يحدثه ويضاحكه فالريح تسر إليه باسم حبيبته، والنجوم ترنو إليهبعين الحنان والعطف، وكل شيء في الطبيعية يداعبه ويفاكهه، أما إذا كان مخزوناً فان هذه الحقائق والأخيلة تتغير في رأيه، وتختلف في نفسه فالريح تسخر من تأوهاته، والنجوم القاسية تنظر إليه من غير تقدير ولا عناية، وكل شيء حوله مغاضب له ساخط عليه
قد يقول قائل إن الشعر يقوي ويوضح الاحساسات ويوسع الخيال، ونحن نوافق على ذلك ونزيد أن الشعر قد يعمل على تنظيم ما يضطرب في عقول الآخرين، وانه قد يوقظ العقل