ويوسعه بترقية الاحساسات وكثرة الأفكار التي يلقيها إليه، ولكننا ننكر أن هذه هي غايته السامية، فليست رسالة الشعر هي التثقيف كما قال هورس، فللتثقيف أداة خاصة به والشعر لا يزاحمه فيها، وما جاء من ذلك إنما آتى عن طريق غير مباشر في عرض الرسالة وأدائها، ولعل أعظم برهان على ذلك أننا لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر تفكيراً، ولكن لأنه أكثر حساسية وأوفر شعوراً، والذين يفهمون الشعر على أنه فلسفة أو أخلاق أو يحاولون فهمه على هذا الأساس، إنما هم مخطئون في معرفة رسالته، فالشعر لم يرسل ليكون لسانا للفلسفة، ولا أداة للأخلاق، وأما هذه الأفكار التي قد نعثر بها عند بعض الشعراء فنظنها فلسفة أو أخلاقا، فهي ليست من هذا الطراز الذي نعهده عند الفلاسفة، ولا من المبادئ التي نعرفها عند الأخلاقيين، وفهمها على هذا النحو خطأ من أساسه، ونسيان لرسالة الشعر وغايته.
والشعر لا يخضع لقانون خاص كقوانين العلم، ولا أصول ثابتة كأصول الدين، وإنما يحتاج إلى قوة التأثير التي تربط بينه وبين قلوبنا وتصل بينه وبين أفكارنا، وذلك لأنه صلة بين صاحبه وبين قارئيه، وبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلته العلو والإسفاف وقد نستطيع أن نقول إن التأثير هو كل شيء في الشعر، وهو سر خلوده، وسبب بقائه على وجه الدهر، وما الشاعر العظيم إلا الذي يشعر الأشياء التي تلمس قلوب الناس وتؤثر فيها تأثيراً عميقاً، ولقد كان قلب شاكسبير - كما يقول الإنجليز - كأنه مخلوق من قلب الإنسانية ذاتها، لأنه كان يتحدث فيلم بخطرات القلوب وخلجات النفوس، ولقد كان لسانه - كما يقولون أيضا - كأنه يحفظ كل الكلام الأنساني، لأنه كان يعبر فيحسن التعبير ويؤثر فيجيد التأثير
وإنه من الحق هنا أن نذكر أن معظم شعرائنا لا يتناولون بشعرهم ما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشراً، ولا ما يؤثر فيها ولو تأثيراً بعيداً، كأنهم في شغل عنها أو في غفلة عن أمرها، ولهذا فشعرهم لا يقع منا إلا موقع الطنين الممقوت والضوضاء الكاذبة، فهو شعر لا يمتزج بالنفوس، بل لا يتصل أي اتصال بالقلوب، وما أشبهه بمدينة منهدمة لها سور لا يكاد يقوم فلا هي تجذب العيون، ولا هو يعطف القلوب، وأكبر ظني أن هذا الخطأ الفاحش في فهم رسالة الشعر جاء هؤلاء الناس من أنهم يعيشون معيشة فنية صرفة فهم لا يستمدون فنهم