فما بنا على ذلك أن نتشاءم أو نتفاءل، وما التشاؤم والتفاؤل إلا حركة النفس الفارغة التي لا تجد عملها، فهي تعمل في إرهاق نفسها بما لا ينفعها ولا يعنيها؛ وليس من عمل الإنسان ما هو أضر عليه من إجهاد نفسه في باطل، والجهاد بها في غير طائل. فإذا أردنا اليوم أن ننظر فما ننظر إلا لنعرف الطريق التي يجب أن نقرر لجهودنا أن تمهدها لنا ولمن يأتي بعدنا على تدبير وسياسة
والقدرُ اليومَ قد قضى بين الناس، ووضع القضية لمن يختار، فمن شاء أن يدخل في عقد هذا وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يتخلَّف فقد رضي لنفسه على مَيْزة وبصيرة، وما ينقض القدر قضاءه الذي أبرم، فيأتي من يأتي ينوحُ بما ظُلم، ويتوجَّع بما غُبنَ!!
ونحن قد لقينا من أحداث الدهر ما ردَّنا بعد عزّ إلى قرار هوان. وقد أبَى لنا أن نرفع أنفسنا من وهدة واطئة قد ربضت بنا فيها سلاسل من حديد الذل، وقد حضرت ساعة ينبغي أن نفصل فيها بين عهد مضى وزمن يستقبل، فإذا قعدت عزائمنا، وعميت أبصارنا، فأنفسَنا نضيع، وأرواحَنا نزهق
جاءت هذه الحرب لتنسف تاريخاً شامخاً ثقيلاً قد اضطجع على حياة الشرق كما يضطجع الجبل على سفحه الرَّحْب، فإذا تأخر الشرق وتهاون وتكاسل على ما عوَّده الموت الروحيُّ الذي كان فيه، فقد سنًحتْ له الفرصة ثم ولَّت عنه، وتركتْ يدَه ممتدَّة لا تمسكُ إلا أذيالَ الريح التي استَرْوَحتْ عليه بأنفاس الصيد ورائحته
إن في هذا الشرق لميراثاً نبيلاً من الأعمال والأخلاق والآداب والسياسات، ولكن هذا الميراثَ المضيَّع المنسي لا يجدي من خير على نائم قد أغمض عينيه عن الحياة، استمتاعاً بحياة أخرى تعرضها له أحلام رخية تختال في خياله. هذا الميراث المجهول في حاجة إلى من ينفض عنه غبار القدم، وأتربة الإهمال، ويزيل عنه أدران الجهل والخمول، ويجلوه مرة أخرى على أعين الناس مضيئاً مشرقاً يتوهج بأنواره كأحسن ما يتوهج
لقد كانت الحضارة الأوربية الماضية، وقامت على روح من الأثرة والبغي والاستبداد، وفقدت كل معاني الروح السامية التي تبذل أكثر مما تأخذ، وتعتد الغنى من الاستغناء لا من الجمع والتعديد، وتجعل حرية النفس في ضبطها وإمساكها على المصلحة لا في تسريحها وإرسالها على مدة الشهوة. وقد كان للشرق مجد وحضارة ومدنية، وتمم الإسلام كل الكمال