لهذه الحضارة بما أقام للناس من شعرائه وآدابه، وجاء على الشرق زمان كان الإصلاح فيه ضرباَ من إفساد الصالح، وزيادة الفاسد فساداً وخبالاً. وكذلك ضاع كل شيء، ورجع بنا الزمان إلى جاهلية جهلاء، تقوم على التقليد لا على الإبداع، وعلى المتابعة لا على الاستقلال، وبالكبرياء لا بالتواضع، وحتى ذكرى مجدنا السالف قد صارت عندنا نخوة جاهلية في التعظم بالآباء والأجداد، لا عملاً عظيماً تعظمه أعمال الآباء والأجداد والوراثة القومية النبيلة
والحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة التي تقوم بها المادة. فكل حضارة لابد لها من روح تعيش بها وتنمو، وعلى ما في هذه الروح من النظام والتدبير والنبل والسمو، تنشأ الحضارة منظمة مدبرة سامية نبيلة. ونحن لا نشك في أن الروح التي ورثها الشرق في نواحيها، والتي طهرها الإسلام من نواحيها وأتمها، وأحسن سياستها، ونفى عنها خبثها - هي التي تستطيع أن توجد على الأرض حضارة تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتفيض بها رحمة كم فاضت غلظة، وتجعلها طريقاً للإنسانية تخرج به من ظلمات الباطل والبغي والغرور إلى نور الحق والتواضع والمساواة. ويومئذ لا يقتتل الناس من أجل سلب الحق للزيادة في أنفسهم وجنسياتهم، بل يقتتلون - إن هم اقتتلوا - من أجل إعطاءِ الحق وردَّه على أهله مهما اختلفت جنسياتهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بما يحسن هذا ويسئ ذاك، ويصبح القانون العالمي، قانون الحق يستقر حيث ينبغي أن يستقر
إن العالم الآن ليقتتل على غير غرض إنسانيّ كامل مقرّرٍ لا يشذ على غاياته ومبادئه أحد. إنه يقتتل على طعام يؤكل، بل على هذا الطعام كيف يُؤكل. فليس لهذه المدنية الأوربية إلا معنىً جنسيٌُّ مُتَعصِّبٌ تدافع عنه لنفسها لا للإنسانية كلها، لا يشك في ذلك إلا من طمس الله على بصيرته، وقادته أهواؤه وغرائزه دون عقله وواجبه. وما هذا التوحش الحيوانيُّ في هذه الحرب إلا نتيجة طبيعية للفكرة القومية المستقلة التي لا تريد إلا أن تستولي على أعظم ما يمكن أن تضع يدها عليه لتستمتع بالحياة والشهوات والسلطان