برغبة عنيفة لا يدري ماكنهها إلى القتال أو الرقص أو الصياح أو البكاء، وتندت أهدابه بدمعة أحس بتفجرها من أضلعه. كان بمعنى آخر عاشقاً يتلقى قلبه لأول مرة أمواج الحب الكهربائية الغامضة غموض الأثير. وأغمض عينيه في الظلام وهو يتنهد في ارتياح وغبطة مستسلماً للذة الأحلام. وتساءل في استسلامه السعيد: ترى ما الذي ساقه هذا المساء إلى السينما ولم يكن أعد نفسه لذاك؟. . . إن كل شيء يبدو وكأنه يؤكد أن القدر يرسم خطة رائعة بدأها في شارع قصر النيل وما زال ينسج فصولها في سينما رويال. نعم إنه لم يرها عبثاً، ولن تلتق عيناهما مصادفة؛ كلا، ولم يأت إلى السينما اتفاقاً. ولكن الحب يخلق الحوادث والظروف، وإلا فما معنى هذه الحلقة المتقنة؟! وما معنى هذه النظرة الحنون العذبة التي دل تكرارها على أنها مقصودة!؟ أليس هذا الذي يسمونه الحب من أول نظرة؟. . . بلى، هو هو. . . ويشهد عليه قلبه ومشاعره ونظرتها الفتانة النافذة التي لن يمحى أثرها من نفسه. كيف حدث هذا. . . هل كان القدر في قسوته عليه وازوراره عنه يدخر له هذه المفاجأة السعيدة وهو لا يدري؟. . وهل وُجدت أخيراً من لا تستثقل ظله كما يستثقله كثير من الناس. . . ومن تتعرف نفسه بالنظرة الملهمة لا بتغرير الألفاظ وسحر البيان؟. . . كم سخط على الدنيا ظلماً؛ وكم أدان القدر جهلاً. . . والساعة الساعة ينتهي الجفاء وتتبدد الوحشة، ويندى قلبه المحروم ويرطب قلبه اليابس. وفكر الأستاذ بهاء الدين مع ذلك في أمور غاية في الأهمية والجد تناولت حاضره ومستقبله، ولم يفته أن يحسب حساب الوسيلة إلى التعرف والخطبة، ولا فاته - في تلك الساعة - أن يقدر المهر ويحدد تاريخاً للزواج السعيد. . .
ولم يحس بالوقت كالسعداء. وجعل يتأمل بعين مخيلته الوجه النضير والنظرة النافذة إلى القلوب، مستسلماً للأحلام استسلام الحران إلى برد النسيم حتى ظن أن أشهى الأماني دانية لا تكلفه إلا أن يمد يده فيقطفها في يسر واطمئنان
وانتهت الشاشة من عرض فصولها الأولى، وأضيئت الأنوار، ففتح عينيه وكأنه يصحو من نوم سعيد. وصعد رأسه إلى (البنوار) رقم ٣، فرأى فتاته في أجمل صورة ترمقه بنظرتها الفاتنة كأنما كانت تنتظر انقشاع الظلمة مثله، ورآها تميل برأسها نحو السيدة البدينة - التي تدل الظواهر على أنها أمها - وتهمس في أذنها، ثم شاهد السيدة تنظر إلى أسفل