باحثة بعينيها حتى استقرتا عليه. . . فارتبك وتعجب وتساءل ترى لماذا تدل أمها عليه؟. . . على أن عجبه ازداد إلى غير حد، لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتحادث شخصاً لا يرى سوى أعلى طربوشه. ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه وكان ضابط البوليس. فلم يستطع أن يديم النظر إلى أعلى وأدار رأسه إلى الأمام. ولكنه تذكر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فرقته في الخديوية، وأنه يدعى علي سالم، وأنه كان مبرزاً في الألعاب الرياضية، وظن أنه أخو الفتاة، ولكنه تحير في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة، وفيما عسى أن تكون حدثتهما به عنه. . . وغلبه الشوق وحب الاستطلاع فرفع بصره إلى (البنوار) مرة أخرى فرأى الوجوه الثلاثة محدقة فيه. وخيل إليه أن زميله القديم يحييه، فلم يصدق بصره وظل جامداً لا يتحرك، فأعاد الضابط تحيته برفع يده إلى رأسه ورد عليه الأستاذ التحية مرتبكا، وشاهده يدعوه أن يصعد إليه، فخفق قلبه خفقة عنيفة وقام واقفاً وقد لفته الدهشة والارتباك، وغادر المكان في ذهول شديد، وصعد السلم والتقى بصاحبه عند مدخل (البنوار) واستقبله هذا استقبالاً ودياً وشد على يده بحرارة - ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك - ثم أوسع له وهو يقول هامساً:(تعال أقدمك إلى أهلي، ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة. وقال الضابط يقدمها له وهو يشير بيده:
(حرم الأميرالاي محمد جبر بك. الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي)
ثم التفت إليه وقدمه لهما مكتفياً بذكر اسمه وزمالته القديمة لأنه كان يجهل حاضره. ودوت كلمة (خطيبتي) في أذنه دوياً مزعجاً أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعاً وسكب مكانها خيبة مرة، فجلس كما طلب إليه ذاهلاً مرتبكاً قانطاً عاجزاً العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله، وكانت السيدة ترحب به وتشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته ولكنه لم يدر مما قالا شيئاً، واكتفى بانتزاع ابتسامة مغتصبة من شفتيه يرد بها عليهم رداً صامتاً كئيباً. وكان يتخبط في حيرة عمياء، لا يدري لماذا دلت الفتاة عليه، ولا كيف دعاه زميله، ولا لأي سبب عرفه بهما وعرفهما به. . . ولاحت منه نظرة إلى الفتاة، فوجدها تبتسم إليه ابتسامة حزينة، فشعر بامتعاض، ووجه عينيه إلى أمها كأنما يفر منها فراراً، فرأى المرأة ترنو إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، فازدادت دهشته وبدا عليه الانزعاج، والتفت إلى