وراحت الأيام تدنيهما قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفساً لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنواً من الإخلاص والوفاء والرجولة؛ فمنحته الإعجاب إلى الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت؛ فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها، وأتست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبتْ زوجها إلى داره، والتقيا روحاً وجسداً وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضى؛ فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل وراح زوجها يبذل لها، ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرَّد ألحانه. ومضى عام، وصار الاثنان ثلاثة؛ واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق - كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفَّف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خالٍ على شط النيل حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها. وانبعث الماضي إنساناً حياً يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من سِنيه لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت؛ وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار بسمات على الشفاه تختلج وتناجياً في العيون تتلاحظ؛ وهتف ماجد في هَمس: هُدى!
وهمَّتْ هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صورٌ وذكريات، وخيل إليها أن أصواتاً كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، وأفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: ماما! ماما! أنا سبقتك!
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلةٍ منذ سنوات - كانت في تلك الليلة؛ وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ وشعرت كما شعرت مرة من قبل، أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها