للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تدع سبباً يذكّرها به إلا أبعدته وعفَّتْ آثاره؛ فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء من معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذْرَتْ رمادها، وحتى المخدع الذي كان يُلمّ بها طيفُه إذ تأوي إليه، لم تَدَعه في موضعه؛ والصورة التي تصوّرتها يوماً لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها -، لم تُبقِ عليها؛ والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاولْ أن تمسك سمّاعتها بعدُ مرةً واحدة لتنادي أحداً أو تجيب نداء. . .

ولكن هدى مع كل ما فعلتْ وما غيِّرتْ من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورِقْبة، تخشى يوماً يستيقظ فيه ذلك الشبحُ الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويُزِلّها!

وتركتْ ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان؛ وجلست في مُصَلاَّها ورفعتْ يدين ضارعتين إلى الله تدعو: (يا ربّ! هذه طاقتي فيما أملك؛ فجنَّبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!)

ولما حُدِّد يومُ العُرس بعد أيام، رَجَتْ أباها وخطيبَها أن يَنْسآ الأجل؛ فما تريد أن تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعاً!. . .

وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأتْ فتىً يستحق الحبَّ لو أنها تملكه؛ فمنحته الاحترام والطاعة!

وكثر لقاؤها خطيبَها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديثُ فنوناً، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه؛ ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضَتْ من حياءِ، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!

أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط!

لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع سرّاً أطلَّ عليه من عينيها حين نظرتْ ونظر، فلم ترقأ دمعتُها ليلتئذ!

ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولتْ أن تقول شيئاً ثم أمسكتْ؛ قلد خُيِّل للمسكينة أنها تستطيع أن تَتَخفّف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحتْ به بين يديه؛ ولكنها لم تقدر، فسكتتْ على ألم!

<<  <  ج:
ص:  >  >>