فالقرد كلما رأى حركة قلدها، وكلما رأى حالة نفسية تتضح على صاحبها أثراً جسمانياً بادياً تصنع هذا الأثر الجسماني البادي وإن لم يقدر على أن يقنع الناظر إليه بأن نفسه من الداخل قد تحولت إلى هذه الحال التي من عادتها أن تنضح بهذا الأثر، ولكن الممثل الذي من نوع شارلي ونجيب أصدق تصويراً للنفس الإنسانية في حالاتها المختلفة، وإن كان يتقيد في هذا التصوير بطبيعة نفسه هو تاركا ما عداها من النفوس، ونفسه مهما كانت غنية ومهما كانت سهلة طيعة فهي نفس مفردة واحدة بينا الحياة فيها ملايين الملايين من النفوس والصور. . .
وهذا عيب قد يؤخذ على هذا النوع من الممثلين، ولكنه في الحقيقة غير عيب، وإنما هو فضيلة. فكل نفس إنسانية في حقيقتها المجردة لا تفترق في شيء عن غيرها من النفوس، وإنما تختلف النفوس بعضها عن بعض تبعاً لمؤثرات عارضة بعضها موروث وبعضها مكتسب، وبعضها تمكن، وبعضها لا يزال مزعزعاً، وهكذا، والفنان الذي يتخذ الحق طريقة إلى الفن يبدأ أول ما يبدأ بمراقبة نفسه وبمتابعة فضائلها ورذائلها، ثم يعكف على توطيد الفضائل، ومكافحة الرذائل، فإذا لم ينجح حيال شر من شرور نفسه لم يخفه عن الناس، وإنما أعلنه مع ما يعلن من نفسه فيعرف عن الناس أسراره ودخائله وشروره وآثامه وعيوبه وأخطاءه ومساويه ورذائله، وهو أول من يعرفها من الناس، وهو أول من يكرهها وإن استسلم لها وعجز حيناً عنها، ولكنه لا يزال يتربص بها الفرص ويرجو النجاة منها ويطلب من الحق أن يعينه على هذه النجاة. . .
وهذه نزعة من نزعات التصوف، وهي انطلاقة جريئة نحو الحق، وهي وحدها التي تمكن صاحبها من الإلمام بنفسه والإحاطة بما فيها، فإذا بالذي فيها كنز لا يفنى، ككل كنز في كل نفس، غير أن هذا كنز مفتوح لم تتكدس عليه الأكاذيب والأباطيل
فليس عجيباً بعد هذا أن تتاح صحبة من الفنون الجميلة للفنان الذي نفسه هي هذه النفس، فيكون أديباً وممثلاً ومغنياً وراقصاً ومعلماً وغير ذلك
وإذا كان القرد يقلد وينجح في التقليد نجاحاً خفيف الروح بهيج الظل لأنه يتطلع إلى غيره، فإن للإنسان أن يكون فناناً إذا تطلع إلى نفسه وهي أقرب إليه من غيره.