وآخرين لا يجدون إلى القوت سبيلاً، فخذ من غنيهم وأعط فقيرهم، فإن أبوا فخذ رقابهم من أموالهم بديلاً، فإن جئتك زائرة لا أجد فيها معوزاً ولا ذليلاً
واهتز جسم القائد وشحب لونه شحوباً عظيما وتمتم في صوت خافت:
- أفيكون جزائي بلائي وما أكنه لك من بالغ الوجد إقصائي؟ فتدرك مرماه وتهمس له مؤنبة:
- ما رأيت أشد منك هولاً الحرب وأوهى جلداً أمام النساء
فتفصد جبينه عرقاً ولوى عنانه وانسل بين جموع الجنود
أخذ الكرى بأجفان الجنود إلا بيلنوس، فقد أمضه السهد، ورانت على نفسه الأحزان، فانطرح على الرمال يؤرقه الشوق إلى وجه مليكته التي أرسلته إلى مصر وهو الذي كان يستمد السعادة من النظر إلى عينيها
وفي ذات ليلة هاجه إليها الوجد، فجلس يقلب في السماء عينيه السادرتين، وذكر أنها تنعم الآن بالحياة، لا يخطر اسمه على بالها ولا تفكر إلا في شن الغارات على ممتلكات الرومان، أما قلبها فلن تهبه له ولا لسواه لأنها تهيمن عليه وتخضعه لإرادة من فولاذ
وأحاط به اليأس، فقام يمشي كسير النفس جريح القلب، ذاهلاً، لا يشعر إلا بألمه. وفي منعطف الطريق رأى سائلا، فتحسس جيوبه ليعطيه شيئاً فلم يجد، وأراد قتل الوقت فسأل السائل عمن يكون، فتكلم السائل أو تحدثت الفتاة التي تمد يدها في الطريق، فكأنما كانت تسكب في روحه نغما موسيقياً يسحره ويسلبه. وقالت: إنها رومانية فقدت ذويها في الحرب، فلبست مسوح الرهبان، ووقفت تستندي الأكف لتطعم أبناء جلدتها الجائعين
ويشفق بيلنوس لهذا الجمال يهصره برد الليل ويقبره الدير، ويأسى لهذه الفتنة يدب فيها الذبول، وهذه العيون ينطفئ فيها البريق، وتراه (دورا) مقبلاً عليها بنفسه وبقلبه، فتسكن إلى حديثه، وتنصت له بسمعها وقلبها، حتى إذا ما كشف عن نفسه وعلمت فيه المبدد لجيوش وطنها القاتل لذويها ثارت نفسها سخطاً عليه
نحن في القصر الإمبراطوري بروما وقد جلس الإمبراطور أورليان على عرشه يحف به الجلال، ونراه يستبطئ قدوم شخص دعاه فيزلزل البهو بصوته الجهوري: