الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية (لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها) والارتقاء الطبيعي للظواهر النفسية (فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور مطرد، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق. ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة) والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما ولا يقطن لها الكبار لدقتها وخفائها أو يهلون إصلاحها ولا يعنون بالقضاء عليها. فالفروق اللغوية الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم.
ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية لا اختيارية للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها أو تغيير ما تؤدي إليه.
ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص. فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها. . .، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقاً وفي وضع طرق ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لجن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل الذي تريدها على السير فيه سنن التطور والاتقاء الطبيعيين.
حقاً إنه يمكن أحياناً التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمناً طويلاً على أصولها القديمة أو ما يقرب منها؛ ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلاً صحيحاً حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيراً مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة، لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلاً. فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية. هذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة؛ وما عليه الحال الآن في مصر وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة في هذه الممالك.