على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو؛ ولا تبقى إلا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال. فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتم تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالة مفرداتها ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتستلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعها، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة. وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال.
فما أشبه لغة الكتابة الجامدة، في حالات كهذه، بجبل ثلج ثابت على سطح البحر؛ ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج من تحته. فهمها طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستوراً تحت هذا الجيل الجامد من مظاهر النشاط والحياة:(سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا).