إنك تستمع للإذاعة اللاسكلية مثلا، ويعتذر المذيع عن خطأ وقع فيه وهو يطالع الأنباء فتسمع اعتذاره، فإذا طوى الورقة التي أمامه، أو وقعت من على النضد الذي هي عليه سمعت حفيف الورقة وهو يطويها وصوتها وهي تصطدم بالأرض، وكأنك معه رغم بعده عنك، فقد يكون المذيع في أمريكا وتكون أنت في القاهرة، وكأنكما تتحدان في المكان وإن اختلف وجودكما في الزمان، وإنك في كل ذلك تعجب أشد العجب لهذه المسألة التي تتلخص في أنك تسمع كل ما يحدث داخل عرفة الإذاعة مهما بعدت، إن تحرك بندول الساعة فيها سمعته وكأنه على مكتبك، وأنت تعجب من ذلك، ولا تعجب عندما ترى النيل وترى الدار المجاورة له فتميز بينهما دون أن تعجب من إتمام هذه العملية التي تتلخص في أنك رأيت النيل والدار وأدركت فارقاً بينهما، وعند ظني أنه يجب أن يكون للأمرين: سماع الإذاعة ورؤية الدار، الدرجة ذاتها من العجب.
أن يصبح وجود الدار في الكون الأثيري - حادثاً يعدل من شأن هذه التموجات الأثيرية حولها، فنرى الدار بما أحدثه وجودها من تعديل في كون خلا من قبل منها، فنراها بما ترسله أو بما ينعكس عليها من إشعاع، ونراها بألوانها المختلفة التي تصل العين والتي يعين كل لون منها عدداً معيناً من الذبذبات التي تصل إلينا في أزمنة متتابعة ومن مواقع مختلفة، كل يمثل لوناً معيناً وموضعاً مستقلاً، وتصل كل هذه الذبذبات المختلفة في عددها وفي طول أمواجها إلى العين، وبالتالي يصل أثرها تباعاً إلى المخ، فينشأ عن هذا الإحساس بالدر وألوانها وحدودها مع تبين موضعها. إن هذه أمور كلها تدعو إلى الإعجاب.
أن تحدث الأمواج الصوتية من المذيع أمواجاً كهربائية، نتيجة لاجتهادنا الشخصي، وأن تكون هذه الأمواج الكهربائية ضمن سلسلة الأمواج الضوئية المتقدمة، نتيجة للوضع الطبيعي في الكون، وأن تصل هذه الأمواج إلينا، مهما ابتعدنا عنها ما دمنا موجودين على ظهر ذلك الكوكب الصغير الذي يجذبنا إليه كما يجذب هذه الأمواج، كل هذه أمور لا يجوز أن تعتبرها أعجب من المسألة السابقة.
فالاستماع للإذاعة أو رؤية الدار أو غير ذلك مظاهر في الكون متشابهة، والمذياع جهاز أقل تعقيداً من العين، وأعظم ما في الأمر من دهشة، هو ما يحدثه وجود هذا الجسم الذي