يعيش الضيف في غير أهله، فليس بينهما شابكة من حب ترِّفه عنه، ولا رابطة من أمل تقرِّ بها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبِي نداءه وتبسم له لكانت حياته جحيما لا طاقة عليها ولا صبر معها؛ وقد اصطفاها عابد لخدمته الخاصة منذ بعيد؛ فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترفيه عنه وليس لأحد غيره عليها حق.
وكانت (زهيرة) الخادمة حقيقة بهذه المكانة من سيدها؛ فكانت صَموتاً مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخره وكأنما صنعت لها روحها ابتسامتها الدائمة، فلا تُرى إلا ضاحكة السن، تطِلْ من عينيها نفس صريحة فيها بريق الإخلاص والحب تنشر حولها جوّاً من الرضا والطمأنينة!
لم يكن ذلك شعورَ عابد وحده، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره؛ على أن أحداً منهم لم يبلغ به حُسْنُ الرأي في (زهيرة) أكثر من هذا الحدّ؛ بل إنها كانت موضع التهمة في أمانتها عند بعض خدم القصر. فكثيراً ما اختفت أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يد زهيرة؛ ولكن سيدها كان من حسن الظن بها بحيث تنال منه ما تشاء لو أنها أرادت؛ فكيف يتهمها بمنديل أو خاتم أو صورة تختفي ولو شاءت لمدت يديها من المال إلى ما تريد؟
وبلغت (زهير) سن الشباب ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خَلق إلى جمال العثْرة وحسن الخلق؛ وخلا عابد إلى بعض صحابته يوماً يُسِرْ إليه حديثاً؛ وأجفل صاحبه مذعوراً وهو يقول:(وتفعلها يا عابد؟)
وسكت عابد، ولكن نفسه كانت تحدثه حديَثها. . .
ولما خلا عابد إلى نفسه أطلق العنان لأفكاره وسرح. . .
(وماذا عليه لو تزوَّجَها؟ وماذا يهمه حديث الناس؟)
هكذا راح يسأل نفسه في خلوته؛ لقد أحب عابد فتاته؛ ذلك شعور يحسه في نفسه إحساساً لم يحس مثله منذ بضع عشرة سنة فماله وللناس؟ وماذا يضطره إلى أن يصانعهم ليشتري رضاهم بسعادة نفسه؟ أو ليس يكفيه ما بذل من شبابه وراحة قلبه من أجل الناس؟
ودعا عابد فتاته فلبَّت ووقفت بين يديه صامته تنتظر ما يأمر؛ ونظر الرجل إليها نظرة جمعتْ له الزمانَ في لحظة فكر؛ وكأنما خيل إليه أنه قد رجع القهقري إلى ماضيه مع