أمينة يوم كان وكانت، وراحت الذكريات يمدّ بعضها بعضاً فتنشئ له أملاً وتبعث فيه نشوة؛ ووقف، وأراح على كتفها يداً ترتجف، وقال لها:(أمينة! أتقبلينني. . .!)
ورفعت إليه عينين فيهما حنان وحب، ثم أطرقتْ؛ وقالت:(سيدي!)
وكما سمعها مرة منذ بضع عشرة سنة من فم أمينة - طرقت مسمعيه الساعة؛ واستطردتْ:(لستُ لك يا سيدي، ولست لنفسي؛ إنني خادمتك!)
وانفلتت من بين يديه وذهبتْ. ومضت أيام قبل أن يعود إلى الحديث معها، وقالت:(سيدي!) وضمها إليه وهو يقول: (ناديني باسمي يا زهيرة؛ إنه أحبُّ إليّ!)
قالت:(ولكن لك اسماً آخر أحب إليّ؛ لقد أنبأتني أمي. . .!)
قال عابد:(أمك؟. . .)
قالت:(نعم، إنها أمي. . . أمينة؛ لقد أنبأتني أمس؛ لم أكن أعرف قبلها أن لي أباً، ولكني كنت أعرفه، وأحبه. . .!) وهوّتْ بين ذراعيه باكية!
وفي كوخٍ منفردٍ على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثّمِّة فتاة على مقربة تصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصةً بدأتْ قبل أن تولَد ولم تنته إلى نهايتها بعد. . .
. . . وقال عابد:(إذن فلم ترضْعني أمُّكِ كما زعموا؟)
قالت:(ومن أين لها وقد ماتتْ أمي قبل أن يُبْنَى القصر الأبيض، ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أتم الرضاع فلم ألقم ثدياً بعدها قطّ، وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفَراش بين نوَّار الحقل، وكنتُ أدعوك سيدي!)
فابتسم عابد وقال:(ولكنك لن تدعيني بهذا الاسم بعد؟)
ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروَّت شفاهٌ ظمأى؛ وتلاحقت أنفاس مبهورة، وهمت أن تقول، وهمَّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف؛ وتساءل قلب وأجاب قلب؛ وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلَّتْ عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، وازدحمت العيون على فروج الخباء تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر؛ وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل. . .