كان الأدعياء كُثروا، وكانت بدعة القول بأن العناية بالأسلوب ليست إلا حذلقة لا تليق بأبناء العصر الحديث، وكانت هناك فتنة يَنجُم قَرنها من وقت إلى وقت، وهي فتنة الرجم بأن اللغة الفصيحة لغة أجنبية وأن اللغة العامّية هي لغة المصريين. وقد وُئدتْ تلك البلايا وهي في المهد بفضل سعد، ولكن كيف؟
كان سعد من أبناء الجيل الماضي، وهو جيل سليم، ويشهد بسلامته وعافيته ما نهض به من جلائل الأعمال، فذلك الجيل هو بطل الثورة على الظلم والاستبداد، وذلك الجيل هو الذي قاومَ طغيان الغرب على الشرق، وذلك الجيل هو الذي عاونَ على قوة الشخصية القومية، وذلك الجيل هو الذي خلق مُنشَئات عظيمة منها الجامعة المصرية
من ذلك الجيل السليم كان سعد، وكان ذلك الجيل يؤمن بأن اللغة العربية هي أكرم ذخائرنا الوطنية، وكان يرى أن متانة الأسلوب هي العنصر الأول من عناصر البيان
وكذلك يفهم من لم يكن يفهم كيف كان سعد يُعنِّى نفسه ويعذِّبها في سبيل الظفر بالأسلوب الرصين
هل تذكرون كيف كان سعد ينظم خطاباته الرسمية وهو يتوجه إلى جلالة ملك مصر أو إلى الأمة أو إلى النواب والشيوخ؟ لو صح القول بأن الجهد الشاقْ يقصِّر الأجل لقلت إن عناية سعد باشا بالأسلوب قد نهبت من عمره نحو عشر سنين، وإلا فكيف جاز أن يموت قبل أن يصل إلى السن التي يموت فيها رجلٌ في مثل هامته العالية وبُنيانه المتين؟
إن اهتمام سعد بالأسلوب خلق في القلوب فكرة الحرص على كرامة اللغة العربية، وكان ذلك بداية انهيار جيش الأدعياء، من الذين كانوا يرون أن من السهل أن يكون الشخص أديباً بدون أن ينفق من عمره سَنةً واحدة في الإطلاع على ذخائر اللغة العربية. ومن حظ مصر أنْ كان خصوم سعد باشا يرون هذا الرأي، فكانت جريدة السياسة وجريدة اللواء وجريدة الأخبار تحارب جرائد الوفد بأسلوب ظل أثرها باقيا إلى هذه الأيام
وماضي سعد باشا في صباه يوم كان محرراً في (الوقائع المصرية) يشهد بأنه كان من الذين يستهويهم القول الجزل والتعبير المصنوع، وقد لزمتْه هذه الخصلة طول حياته فكان يرى البلاغة ضرباً من الفن الجميل لا يصل إليه الرجل إلا بعد أن يتمرَّس بأساليب