شهرنا الخالد في تقويم الدهر مارِس! فيه كما يقولون ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!
وفيه كما نقول استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة. وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب والهلال، وتسابق إلى الخلود الشيوخ والأطفال. وسالت أنفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!!
وفيه كما تقول الطبيعة تتجدد الحياة، وتهتز الأرض، ويورق الشجر السليب، ويمرع الوادي الجديب، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!!
ولكن خمسة عشر عاماً طوالا أتت على مارسنا الأول فجعلت ما قالوه كلمات ميتة، وما نقوله ذكريات خافتة، وما تقوله الطبيعة حديثاً مُعادا!
فالحكومة تدفع الحكومة، والذكرى تتبع الذكرى، والربيع يعقب الربيع، ونحن لا نزال في الموقف الأول، يتدفق علينا الزمن، وتُغَّبر في وجوهنا الشعوب، كأنما خرجنا عن مدارج القافلة، أو رمى بنا التيار في حواشي الوجود!
من الذي نضح القبس بالماء، وشغل المسامع عن نداء الشهداء، وحول وجه النهضة إلى الوراء، واعترض مجرى الحياة المصرية طول هذه الحقبة؟ ستقول خدعة السياسة، وشهوة الحكم، وفتنة المال، ونكسة المرض، ولكنك لو عبرت عن ذلك كله بانحلال الخلق لكان اجمع لأسباب الأمر، وأبلغ في إجمال الحقيقة، فان التكالب على سلطان الحياة وزهرة الدنيا يصدر في الغالب عن حمية ورجولة، ولكن ما نحن في اليوم من تحكيم الهوى، وتغليب الأثرة، وهوان الغرض، وفساد الضمير، وفجور الخصومة، لا يوائم فطرة الله، ولا يلائم طبيعة التقدم
على ان السفينة التي يصارعها الموج فتضطرب، ويعصف بها النوء فتجور، سيظل لها (مارس) منارا في مرفأ السلام يرسل الهدى للجائر، ويلقى السكينة في المضطرب.
سنذكر دائماً مارس من عام ١٩١٩ حين عصفت في الرؤوس نخوة العزة، ونَزَت في القلوب ثورة الحفيظة، وأعلنت مصر مرة أخرى بعد (عرابي) أن لها مثلا تتبعه، وماضياً تعيده، ومستقبلاً تعدُّه، وأمراً في أرضها تدبره، وحكماً في سياستها تصدره. ويومئذ كان للربيع معنى الربيع! هبت رياح آذار فألوت بحطام الشتاء والخريف، وسرت في البلاد